الوجودية المقيَّدة
طه البوسيفي
الحياة لعبة قذرة، هكذا قال ارنست همنغواي، موقف الجملة أبلغ منها نفسها، وهي ليست ابتكاراً من كاتب عرف بسلاسة الكلمة وسهولة المعنى وبساطة اللغة، فالكاتب #الوجودي الاتجاه حين بلغ أرذل العمر حكى عنه آخرون أنه وضع المسدس في فمه لحظة يأس من الدنيا التي وصل إلى محطتها الأخيرة ولم يعد له في العمر سوى تضخيم الذكريات، أطلق النار على نفسه، لتنطلق روحه سابحة في الملكوت هائمةً بلا جسد.
مات همنغواي منتحراً، في الظاهر يبدو الأمر تجسيداً مكتملاً لأركان الوجودية المبنية على حرية الفكر، والاختيار، والإرادة، لقد صنع همنغواي ما يريد، من مشاركته في الحرب العالمية، إلى صناعة أدبه الخاص به العاكس حياته العملية، إلى نهاية رسمها كما أراد دون مؤثر خارجي.
الفلسفة الوجودية أثرت في همنغواي، تسربت إلى مشاعره، نامت في عقله الباطن المحرك للذات كما يقول فرويد في صدمته الثالثة لنرجسية الإنسان الذي اعتقد مُفاخراً أنه مركز الكون، الصدمة الثالثة كانت دلو ثلجٍ اندلق على رأس الإنسان بعد صفعة كوبرنيكوس الذي أثبت مركزية الشمس ودوران الأرض، ولكمة داروين التي غيرت ملامح وجه العلم تماماً.
الوجودية نشأت من ألم الحروب التي عصفت بأوروبا في القرن العشرين عبر جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي الملحد تلميذ هايدغر العتي، بعد سارتر تطور مفهوم الفلسفة الوجودية، انشطرت وتفرعت وتوسعت وأنشأت لها اتجاهات خاصةً بها، اعتنقها كثيرون_ملحدون ودينيّون_ ومن بينهم ارنست همنغواي.
الوجودية جاءت كردة فعل يائسة بعد تفشي الموت أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية بوضع قيمة لهذه الحياة التي أضحت رخيصة، فهي نزعة إنسانية تبدأ من الإنسان نفسه، تعزز وجوده، وتعطيه قيمته، وتتوج كيانه.الوجوديون يؤمنون بحرية الإنسان المطلقة ـ وبضرورة أن ينفض غبار الماضي فلسفياً ومنطقياً ودينياً حتى يمضي قدماً في رحلةِ الحياة، لكن سيناريو النهاية هو ما يحدد إن كان الوجوديون أحرار الإرادة والاختيار أم رهائن أفكار وتوجهات مرسومة سلفاً ترقد في عقلهم الباطن!
همنغواي مات منتحراً، والانتحار لا يأتي ولا يتأتى إلا بعد حدوث اضطرابات نفسية شديدة الوضوح والتأثير، تصل بالإنسان إلى حافة الهاوية، تفقده هرمونات في جسده مسؤولة عن المزاج من بينها هرمون سيروتونين، هذه الاضطرابات بعضها يكون بالوراثة، تنتقل من جين إلى جين إلى أن تصل إلى الشخص المنتحر، تمت ملاحظة هذه الأشياء من قبل علماء النفس وعلماء الأعصاب وخصوصاً في الولايات المتحدة (بلد ارنست همنغواي) حيث وجد أن ثمة عائلات دون غيرها عرف عنها كثرة حالات الانتحار.
عائلة همنغواي خير دليل، فأبوه كلارنس، وأختاه أورسولا وليستر وحفيدته مارغاوك، جميعهم انتهت رحلاتهم الدنيوية بالانتحار، قيل طبياً إن المنتحرين والمنتحرات عانوا جميعهم وجميعهن من زيادة تركيز الحديد في الدم الذي يؤدي إلى تشتت الذهن وزيادة الاكتئاب وهو ما حدد سلفاً مصير همنغواي وطعن الوجودية التي اعتنقها في قلبها النابض.
لعبة التناسل المتسلسلة، بكل تأكيد وصلت إلى همنغواي، فما عاد قادراً على التملص منها أو الانسلال عنها أو الانتصار عليها، تقبلُ الحالة كذلك أن يكون همنغواي وقع أسيراً في شراك هذه الحالات، الحالات التي تقيد الحركة، وترسم طريقها بمنأىً عمّا يعتنقه الفرد فكرياً أو يحاول أن يكون كذلك.
ما أكده جان بول سارتر وأفنى حياته مخلصاً له، دحضته حالة ارنست همنغواي وشككت فيه طلقة دخلت من فم الكاتب الأمريكي فثقبت رأسه وأنهت حياته.