النظام يريد إسقاط الشعب
سالم العوكلي
لعل سبب ما اعترى الربيع العربي من إخفاقات متباينة كون هذه الثورات، أو الانتفاضات الشعبية، لم تخلص لشعارها الأساسي الذي انطلق أول مرة في ميادين تونس، ثم انتشر على جدران عربية عدة في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وهو شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” وهو هدف ذكي لأية ثورة تسعى إلى التغيير الجذري في البنى السابقة للمجتمعات ومنظومات التحكم فيها التي أرست نظمها أو بالأحرى (نظامها) بعد عقود من الحكم العسكري أو البوليسي، سواء من تستر بانتخابات مزيفة تؤكد على الحكم الدائم للحزب الواحد، تونس ، مصر، اليمن، سوريا، أو من تستر بكونه سلم السلطة للشعب وتحول إلى إله يجعل الشعب مصيرا وليس مخيرا (ليبيا). وفي الأحوال جميعها كان إحساس هذه الأنظمة بكونها فاقدة للشرعية يجعلها تلجأ إلى ترتيبات أمنية صارمة للاستمرار في السلطة ، عبر تفعيل قانون الطوارئ لعدة عقود، أو عبر المراهنة على الشرعية الثورية المتمخضة عن انقلاب عسكري والممتدة هي أيضا لعدة عقود .
الشعور بفقدان الشرعية هو ما أرسى هذا (النظام) بمعنى ((System وليس (Regime) الذي طالبت الشعوب بإسقاطه في أول انتفاضة شعبية شاملة في تاريخ هذه الشعوب . ومن اقترح هذا الشعار كان على وعي بأن هذه الثورات لن تنجح إلا إذا أسقطت النظام برمته وليس بنهاية من يتربعون فوق عرشه فقط.
لذلك لا نستغرب بعد هذه التضحيات أن يعود النظام إلى ترميم نفسه، والعودة بشكل أشد شراسة لأنه أصبح يدرك أن هذه الشعوب قادرة على الحراك بعد أن قضى النظام التقليدي السابق عقودا في خبرة تصفية النخب وفي رشوة الشعوب التي أطمأن من جانبها بعد عقود من السبات، وبهذا المعنى يصبح الشعار “النظام يريد إسقاط الشعب” مرة أخرى في طقوس الطاعة.
يعود قانون الطوارئ، يعود حكم الحزب الواحد الذي ينتمي له الرئيس، وتعود مظاهر التوريث ويعود الحاكم العسكري في بزة مدنية، وتعود الأجهزة الأمنية التي تعمل بمعزل عن أية مرجعية دستورية أو حقوقية، وتعود الوعود بتحسينات اقتصادية وتحسين الخدمات على حساب أي تقدم سياسي، ويعود خطاب تخوين المعارضة أو أي رأي مخالف، والرقابة الصارمة على الصحافة ووسائل الإعلام والمصنفات الفنية، ويعود استثمار التهديد الإرهابي من أجل تكريس سلطة هذه النظم الشمولية الجديدة التي جاءت عن طريق الصناديق مثلما جاءت النازية والفاشية عن طريق الصناديق ، والأخطر من ذلك تجديد العقد بين النظام السياسي والمرجعيات الدينية من أجل إنعاش المقايضة القديمة، الشرعية مقابل النفوذ، وتحالف القصر مع المعبد ضد هواجس التنوير التي من الممكن أن تسحب البساط من تحت أرجل السلطتين.
في تونس ثمة محاولات ليست خجولة لعودة النظام عبر حرسه القديم ومحاولة إعادة إنتاج الدولة البوليسية وهواجس التوريث التي أطاحت بها الثورات، ولعل تقدم التجربة التونسية عن التجارب الأخرى، وما يصبغ عليها من تفاؤل من قبل المراقبين، يرجع إلى بعض العقبات المتمثلة من ناحية في المرجعية البورقيبية المشكلة للمزاج التونسي العام بكل انجذابها تجاه الدولة العلمانية كأرضية مناسبة للدولة المدنية، إضافة لقوة المنظمات المدنية المَدينة لتلك الحقبة المدينة بدورها لثقافة الفضاء الفرانكفوني.
أما مصر فتشكل النموذج الأهم للعودة التدريجية إلى النظام السابق في مراحله الأولى وليس حتى مرحلته المروضة التي تم الثورة عليها، وخدم إلى حد كبير هذه العودة المزاج الشعبي الغالب الذي مازال ممتثلا لفكرة الأب و “الكبير” ومازال مقدسا للمؤسسة العسكرية والتي بشكل مفارق تفرض على الشعب امتنانه لحمايتها له رغم أنه الدور الطبيعي للجيوش حتى وإن كانت بعيدة عن السياسة وإدارة الدولة المدنية. جميل أن يحترم الشعب جيشه، خصوصا حين يكون بعيدا عن التدخل في العمل السياسي، ولكن لو منح بعض هذا الاحترام والتقديس والدعم الكلي لقطاع التعليم والبحث العلمي والتنمية البشرية لكانت مصر من زمن في مصاف دول الاقتصادات الكبرى التي تعمل في ظل ديمقراطية حقيقية، ولما كان لها أن تنتظر ربيعا عربيا جاء متأخرا حتى تلتحق به.
أما الحالة الليبية التي معني بها هنا فهي مختلفة بكون النظام السابق أرسى مفهوم اللادولة منذ البداية كي يحافظ على سلطته المخدومة باقتصاد ريعي في قبضته، كما عمل على إشاعة الفساد أفقيا من أجل خلق بيئة مناسبة لنمو سلطته داخل هذه البيئة الحاضنة بطبيعتها لمثل هذه الأنظمة فاقدة الشرعية ، كما عمل على تقويض المؤسسة العسكرية المهددة لسلطته واستبدالها بكتائب عقائدية مخلصة للنظام.
والآن نلاحظ جليا استمرار هذا النظام في العمل بنفس الآلية رغم نهاية من على رأسه وأهم سدنته، لأن الشعار الأساس لهذا الحراك هو الذي سقط في النهاية ولم يسقط النظام، بل أعاد ترميم نفسه بوجوه أخرى أصبحت تدرك أن في مثل هذه الدول الهشة والمجتمعات غير الناضجة يجب السيطرة على المال والسلاح لتسيطر على الدولة أو بالأحرى على مجتمع اللادولة، وهذا ما يفسر التفكير منذ بداية الحراك في الحصول على أكبر قدر من ترسانة القذافي من الأسلحة غير ما تبعثه الدول المتدخلة في الشأن الليبي ، وما يفسر الصراع القوي على المصرف المركزي (بيت مال الليبيين) باعتباره أداة للتحكم في الناس من ناحية وأداة لنشر الفساد الطارد لفكرة قيام الدولة الدستورية أو دولة القانون.
سقطت أهداف هذه الثورات بسرعة لأنها لم تنجح في إسقاط النظام لأن النظام في النهاية أسلوب حياة تسرب إلى أذهان أجيال كاملة تشربته في حياتها اليومية وفي طرق تعليمها وفي أداء مؤسساتها الإعلامية التعبوية، ولأن هذه الثورات كانت نتاج احتقان وليس نضجا اجتماعيا، ولأنها ذهبت إلى نوازع تصفية الحسابات الشخصية بدل تصفية الأجواء لبديل حقيقي للنظام السابق من الممكن أن يستوعب القيم الجديدة التي استمرت أحلاما في أذهان القليلين من النخبة المثقفة.
إنها ثورات ناجحة فيما يخص قدرتها على إسقاط الحكام المتمترسين خلف منظومات أمنية تم بنائها على مدى عقود من أجل أن تقاوم أية بادرة لمثل هذا التغيير، لكنها من ناحية أخرى لم تختمر ، والاختمار في مثل هذه الحالة هو النضج الاجتماعي الذي من الصائب أن يدرك أن النظم القديم ثقافة شائعة ( لدى الحاكم والمحكوم) ولا يمكن إسقاطها إلا بإرساء ثقافة بديلة بإمكانها استيعاب فكرة التحول الديمقراطي، وهنا يغريني من جديد ومرارا أن استشهد بعبارة الكاتب الفرنسي ميشال إيميل سيوران التي تترجم باختزال آليات انقلاب الثورة على نفسها وتنكرها السريع لأهدافها التي قامت من أجلها: “الثورة الناجحة التي تستولي على السلطة،تتحول إلى ما هو عكس الاختمار والولادة فتكف عن كونها ثورة وتقلد، بل عليها أن تقلد، ملامح النظام الذي قلبته، وكذلك أجهزته وطريقة عمله. وكلما بذلت جهدا من أجل ذلك(وهي لا تستطيع أن تفعل غير ذلك) زادت في هدم مبادئها والقضاء على حظوتها.
تصير الثورة محافظة على طريقتها الخاصة، فلا تقاتل من أجل الماضي، بل تقاتل دفاعًا عن الحاضر.ولا شيء يساعدها على ذلك أفضل من إتباع الطرق والأساليب التي مارسها النظام السابق عليها للمحافظة على ديمومته”.
—