خاص 218 // في قرية البواريك بمحافظة سوهاج، ولد الطفل محمد صديق ونشأ في أسرة قرآنية بامتياز توارث حفظ وتلاوة وتجويد القرآن أبا عن جد، فكان والده “صدّيق” وجده “تايب” وجد والده قرّاء مشهورين في مصر، وتعلم من والده أصول التلاوة والتجويد
كان عمه القارئ “أحمد السيد” عازما إل ىالذهاب إلى القاهرة، فقرر اصطحابه معه وهو لم يتجاوز السابعة وكان قد أتم حفظ ربع القرآن، ثم عاد وأتم حفظه كاملا في بلدته الصغيرة، على يد خيرة المحفّظين
كما تعرف محمد على المقامات الموسيقية، وأتقن فن القراءة، وسطع نجمه منذ الصغر، لتولد أسطورة حية بقيت رغم مرور السنين تسمعها الناس بخشوع وشغف، وصارت تعرف طريقته باسم “المنشاوية” نسبة للشيخ المقرئ محمد صديق المنشاوي.
الصوت الباكي
بدأت رحلة المنشاوي الذهبية عندما كان يرافق أباه وعمه أثناء السهرات المختلفة، وهو تقليد مهم وأساسي في مصر، ويعتاش الكثير من المقرئين من أصواتهم حتى صارت فيما بعد “حرفة” لها مكانها في نقابات المهن المصرية
وفي إحدى الليالي من عام 1952 شاءت الصدفة أن يسمح للمنشاوي بقراءة منفردة أذهل بها الحاضرين، فقد كان صوته يتميز بلمحة حزن تؤثر في كل سامعيه، حتى أطلقوا عليه “الصوت الباكي”
شهرته
تردد اسم المنشاوي في العديد من المناسبات في تلك الفترة، وقد قام بتسجيل القرآن كاملا في ختمة مجودة للإذاعة المصرية، ليصل صوته إلى كل بقعة في بلاده، وخارج بلاده أيضا
وكانت ليبيا محظوظة عندما حظت بزيارة ترتب عليها نسخة تسجيل كاملة للقرآن بصوت المنشاوي، رفقة فلسطين والكويت وسوريا، وقد كان المنشاوي على قدر هذا الحظ، فصدح صوته في المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، والمسجد الأقصى في القدس “المحتلة”
كما حصل الشيخ على أوسمة عدة من دول مختلفة، كإندونيسيا وسوريا ولبنان وباكستان، واستقبلته العديد من الدول ليقرأ في مساجدها ويعلم حفاظها أصول التلاوة والتجويد للاستفادة من خبرته في هذا الميدان
شخصية صعبة المراس
كان الشيخ المنشاوي شخصا ذو طباع صعبة وحادة، فقد رفض تلبية دعوة أرسلها له الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، عندما أبلغه الرسول بأنه سيكون له الشرف للقراءة أمام الزعيم المصري، فغضب المنشاوي ورد عليه قائلا:” ولماذا لا يكون الشرف لعبد الناصر بأن يستمع إلى تلاوتي؟”. وقد علّق على هذه الحادثة بقوله:” لقد اخطأ عبد الناصر حين أرسل لي أسوأ رسله”.
وبالرغم من هذا حضر المنشاوي فيما بعد عزاء والد عبدالناصر وكان المقرئ في حفل التأبين، وأولاه عبدالناصر حبا وتقديرا، فدعاه للمبيت في بيته، وعرض عليه صباح اليوم التالي أن يكون له تسجيل للقرآن كاملا خاص بالإذاعة المصرية، وهو التسجيل المشهور له والمتداول بكثرة حتى هذا اليوم
ولكن المنشاوي كانت له حكاية مع هذا العرض، فعندما ذهب إلى الإذاعة طلبوا منه الخضوع لامتحان لاختبار جودة الصوت، فرفض بشدة قائلا:” لا أقبل بالخضوع لامتحان، ولن أسجل في الإذاعة ولا أحتاج شهرتها” مما دفع رئيس الإذاعة لإرسال مندوب استطاع إقناع الشيخ وإرضائه لقبول التسجيل، وهو ما حدث بالفعل.
فقد كانت أول مرة تنتقل الإذاعة بمعداتها والعاملين بها ومهندسيها للتسجيل لأحد المقرئين كانت من أجل المنشاوي، فعندما كان يقرأ الشيخ في حفل رمضاني بقرية “إسنا بدار”، فوجئ بقدوم أحد الأثرياء المنتمي لعائلة “حزين” ومعه إذاعة خاصة لتسجل قراءته وتلاوته
كما ذهبت مجموعة لتسجل قراءة أبيه الشيخ صديق المنشاوي في منزله، وبالرغم من ذلك استمر عناد المنشاوي وكبره، حتى تدخل أحد أقربائه لتبيين حسن نية القائمين على الإذاعة تجاهه وتقديرهم لإبداعه منقطع النظير.
محاولة قتله وتسميمه
قال الحاج سعودي محمد صديق وهو من عائلة المنشاوي أن الشيخ أخبره شخصيا أنه كان مدعوا لسهرة للتلاوة، وقد أبدوا له حسن الضيافة وأعدوا له وجبة خاصة وشهية من ألذ أصناف الطعام
ويضيف سعودي:” وقال الشيخ إن الطباخ جاءني يرتجف ويخبرني بأن أحدا –لم يذكر اسمه- طلب مني وضع السم في طبقك هذا مقابل مبلغ من المال، وضميري يلح عليا أن أخبرك، مؤكدا له أن أصحاب السهرة لا يعلمون شيئا عن ذلك، وأصرّوا أن آتي إليك بالطعام”
وبالرغم من هذا لم يرفض الشيخ دعوة أصحاب السهرة، لكن ادّعى الإعياء والمرض، ولما ألحّوا عليه أن يشاركهم الطعام ليتباركوا به، تناول كسرة من الخبز وقال: هذا يبر يمينكم” وتركهم دون أن يخبرهم أو يخبر أحدا عن اسم من ينوي قتله.
علاقة المنشاوي بالموسيقى!
كشف قريبه “سعودي محمد صديق” أن المنشاوي كان يحب الاستماع إلى الموسيقى، وخصوصا أغاني كوكب الشرق السيدة أم كلثوم حيث يصف صوتها بأنه قوة رقيقة ونغم موسيقي
إضافة إلى عشقه لصوت الشيخ طه الفشني وأدائه الرفيع في الابتهالات والموشحات الدينية وكان كثيرا ما يتصل به ويلتقيان ليقف معه على مواطن الجمال الموسيقي في صوته
وقد جذب صوته عباقرة الفن والموسيقى، فقد قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب إنه –المنشاوي- “حالة استثنائية يحار أمامها الذائق الفاهم، فمن يتأمل مخارج الحروف عنده يصعب أن يجد لها وصفا، وذلك لما منحه الله من حنجرة رخيمة ونبرة شجية تلين لها القلوب والجلود معا”.
حياته الشخصية ووفاته
تزوج المنشاوي مرتين، وأنجب 8 أولاد و6 بنات، وزوجته الأولى كانت ابنة عمه وأنجبت له 4 أولاد وابنتين، بينما توفيت زوجته الثانية أثناء أدائها فريضة الحج، بعد أن أنجبت له 4 أولاد ومثلهن من البنات،وعانى من مرض “دوالي المريء” لمدة ثلاثة سنوات، ولكنه لم يمتنع عن التلاوة رغم هذا
توفي محمد صديق المنشاوي في الـ20 من مايو عام 1969 تاركا خلفه إرثا عظيما من القراءات القرآنية العذبة، إلى جانب رفاقه عبد الباسط عبد الصمد، ومصطفى إسماعيل، والشيخ الحصري وغيرهم من أفذاذ وعباقرة التلاوة والتجويد