المفكر عزمي بشارة وتأجير العقل الذكي
سالم العوكلي
سعت الحكومة القطرية فترة حكم محمد مرسي لمصر لأن تؤجر الآثار المصرية وقناة السويس، وتصورت أنه من الممكن أن تنجح في هذه الرغبة المجنونة، لكن ما لم أتصوره حتى في الخيال أن تنجح في تأجير عقل مثل عقل المفكر عزمي بشارة.
كنت أتابع عزمي بشارة من خلال كتاباته أو حواراته العميقة التي عادة ما تحلل التاريخ والسياسة والوقائع بذهن متوقد وذكي، وأذكر أني شددت الرحال مرة إلى معرض القاهرة للكتاب حينما كانت محاضرة للمفكر عزمي بشارة إحدى مناشطه الثقافية.
منذ ثلاث سنوات شاركتُ بثلاثة مقالات أسبوعية في باب الثقافة بصحيفة “العربي الجديد”؛ التي رغبني فيها كون منشئها المفكر عزمي بشارة، وفي العام 2015 حين حدث تفجير إرهابي قربي في مطعم ومقهى بمدينة القبة راح ضحيته أكثر من 50 مواطنا، وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن التفجير، قرأت خبراً عنه في “العربي الجديد” يصفه تفجيراً من قبل ثوار درنة لأحد مواقع حفتر (الذي وصفه الخبر بالطاغوت) وإن القتلى عسكريون، فبعثت برسالة إلى المحرر محتجا على تزوير الحقيقة التي عايشتها عن قرب،حيث لقى فيها العشرات من رواد المقهى من أقاربي حتفهم في هذا التفجير، وباعتبار أنه مازال ثمة أمل لدي في صحيفة مؤسسها عزمي بشارة ومقرها في لندن، لكن المشرفة على الباب الذي أكتب فيه أبلغتني أنه تم إيقافي عن الكتابة في الجريدة، ومن لحظتها بدأ التوجس ممن اعتبرته ملهمي لفترة طويلة (عزمي بشارة).
يقول بيير بورديو في كتابه (التلفزيون وآليات التلاعب بالعقل): “إذا كانت المجالات العلمية، والأدبية، والسياسية مهددة بهيمنة الميديا فإن هذا يحدث لأن هناك داخل هذه المجالات أفراداً تابعين وخاضعين لا يعنيهم الأمر كثيرا من وجهة نظر القيم الخاصة بالمجال أو إذا استخدمنا اللغة العادية أنهم مثبطو الهمم أو في طريقهم إلى ذلك، لديهم مصلحة في التبعية، مصلحة في الذهاب للبحث عن الوجاهة من الخارج.”.
وهذه المصلحة في التبعية التي قد تخسف فكرا متقدا تبدت لي وأنا أتابع حواراً أجري مع المفكر عزمي بشارة ــ على أجزاء ــ في قناة العربي، حيث كنت أرى وأسمع شخصا آخر غير الذي عرفته وطالما تابعته، وكان المحاور يحاول أن يؤجر هذا العقل الكبير لسلعته كي يدعم معرفيا وفكريا مواقف وسياسات دولة قطر الخارجية، وكان عزمي المهزوم رمزيا يحاول أن يعبئ هذه الإملاءات بقناعاته الخاصة التي تنحني سريعا أمام ضغط المحاور، وضغط الحياة الجديدة التي توفرها له هذه التنازلات المؤلمة بالنسبة لي شخصيا.
وما أذهلني أن يخرج عن طوره أحيانا ويتحدث بلهجة قناة الجزيرة الإعلامية فيشتم كل ما ومن يشتمه إعلام السلطة القطرية، ويكيل المديح لكل من على هواها، وهي لهجة قد تتطلبها طبيعة السياسة وأذرعها الإعلامية، لكنها لا تليق بمفكر يحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة، ويـشغل منصب مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتلميذ نجيب للمفكر الكبير إدوار سعيد، الحاضر بخفة في أسلوب ورؤى كتاباته. إدوارد الذي يفرق بين المثقف الهاوي المستقل، والمثقف المحترف الذي تروضه التبعية لأجندتها الخاصة، كما يطرح مفهومه للمثقف أو المفكر في كتابه ( تمثيل صور المثقف) كونه “في الجوهر ليس داعية مسالَمَةٍ ولا داعية اتفاق في الآراء، لكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات المهذبة القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية”. لكن المحاور الساذج الذي لم يكن في مستوى عقل عزمي استطاع أن ينزل به إلى حضيض الصيغ السهلة والتماهي مع ما يقوله أصحاب السلطة، وحتى حين طرح المحاور سؤالا غبيا عن العلاقة بين ما يحدث في الجزائر ووصول الجيش الليبي ، أو كما قال ، جيش حفتر إلى طرابلس، أجابه مؤكدا العلاقة بصيغة تجعله لا يخاطر بشيء، رغم أن خلفيته المعرفية أكبر من هذا الربط الغبي بين حدثين لا يربط بينهما شيء.
أما السؤال الآخر الذي وجهه المحاور كان نصه : “لماذا حين هجم حفتر على (ليبيا) لم يتدخل المجتمع الدولي لوقف هذا الهجوم؟” وكأن الجيش الليبي قادم من دولة مجاورة. سؤال يعكس خطاب قناة الجزيرة الحاثّ على الفتنة والكراهية (وليس قناة العربي التي تظهر أكثر رزانة) حين يعتبر أن الجيش الليبي يهجم على ليبيا. وتوقعت أن يصحح له عزمي الذي طالما توخى الدقة في السؤال والإجابة، لكنه باشر الإجابة دون حتى لحظة تفكير وترو يتسم بها عادة العلماء في مجالهم، وهو نوع مما يسميه بورديو ( Fast thinking) التفكير السريع والرد على الأسئلة الملتبسة : “إحدى المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي مشكلة العلاقة بين التفكير والسرعة. هل يمكن التفكير أثناء اللهاث بسرعة؟ ألا يدان التلفزيون بأنه لا يحصل على الإطلاق إلا على مفكرين ــ على السريع ــ عندما يعطى الحديث لمفكرين أُجبروا على أن يفكروا بسرعة متزايدة”.
بشارة في كتبه وبحوثه مثال للمفكر المنهجي الذي يتوخى أكبر قدر من الدقة فيما يكتب، وعلى ما أظن لم يجبره ضيق الوقت الذي دائما يشكو منه المذيعون في إدارتهم للحوار، ولا إيقاع التلفزيون كبينة مختلفة تستثمر الوقت في إبراز الإثارة للحصول على أكبر درجات الإقبال، لكني أحس أن كانت له مهمة ترويجية مقابل ما يقدم له ولمركزه للأبحاث بالدوحة، لذلك قال كل ما يريده هذا الممول، واضطر على غير عادة المفكر الكبير لوضع أعداء قطر في سلة واحدة وشتمهم، وكأنه يتحدث من إحدى ديمقراطيات اسكندنافيا وليس من إقطاعية صغيرة، لا تختلف عن محيطها وخصومها، تملك فيها العائلة الحاكمة الأرض ومن عليها، والحال كان كمن يقيم بمقصورة دبابة ويتهم حَمَلة السيوف بالعنف. وكان لزاما عليه أن يلقي أحكامه النهائية على بن سلمان والسيسي وحفتر؛ الذين لا يجمعهم في سلة واحدة سوى كونهم خصوما بالنسبة للسياسة الخارجية القطرية. أوافقه على منطلق نقده لهذه الظواهر، لكني أشكك في سياقها التلفزيوني وفي إلقاء الأحكام النهائية عليها دون النظر إلى الظروف التي لم تغب عنه حين تحدث عن ما أعقب الثورة الفرنسية (التي سبقها قرن من التنوير) من ثلاث دكتاتوريات شرسة قبل أن تجد القيم التي بشرت بها طريقها، بينما الثورات العربية (التي سبقها قرون من الظلامية) تنسحب خارج هذا السياق التحليلي، حيث تتضارب المقدمات أو الفرضيات مع النتائج لأسباب لا علاقة لها بعقل عزمي الذي نعرفه عندما كان مستقلا. وفي سياق آخر أدلى بمقدمة هامة تتعلق بكون الثورات تسقط الأنظمة لكنها لا تبني دولة، وأن ثمة أشخاصا آخرين مهنيين هم من يبنونها في الواقع، ولكن حين تحدث عن الشأن الليبي اعتبر الجيش الوطني الذي نال هو وقيادته شرعيته من مجلس النواب المنتخب من قبل الليبيين طبق الإعلان الدستوري، اعتبره ميليشيا لحفتر، ولم يراوده شك بأنه مؤسسة أساسية مهمة من لزوم بناء الدولة التي لا تبنيها الثورة، وأن اتهامه له بمحاولة الاستيلاء على السلطة وعسكرة الدولة سابق لأوانه، ولا يمكن لمفكر عقلاني أن يشتم أحدا وفق الشك في نواياه أو المصادرة على المستقبل.
لا يمكن لعقل مثل عقل عزمي أن يتورط في هذا التسطيح لمسائل معقدة، وفي خطاب هجائي منفعل، إلا حين يتخلى عن أدواته التحليلية لصالح المزاج التلفزيوني النهم للإثارة ولصالح الميديا التي تريد إعادة إنتاج خطابها عبر عقل يثق فيه الكثيرون، من أجل أن يشفي غليل سلطة استطاعت أن تؤجر عقله ولو مؤقتا لمشروعها الذي هو مشروع لقوى أكبر منها بكثير، وأن توظف مفكرا يساريا للدفاع عن تيارات إسلامية يمينية متطرفة (في تضارب جلي مع نقده الحاد للتيارات اليمينية في إسرائيل وفي الغرب) ، وعبر هذا التصادم المؤسف للأفكار التي أنا علي يقين أنها تؤنب ضمير عزمي بشارة المعرفي من الداخل ” يحل منطق الديماغوجيا محل منطق النقد الداخلي”. فكان طيلة الحوار الناطق بلسان الميديا التي تخوض حربها الباردة مع خصومها المفترضين، متماهيا إلى حد كبير مع مشاعر السلطة الحاكمة في دولة قطر التي عملت وتعمل على تفريق الليبيين عبر ضخها المستمر للأموال والسلاح وعبر قناتها الجزيرة التي لم تتوقف عن تأجيج الصراع في ليبيا، مثلما تؤجج الانقسام بين الفلسطينيين بدعمها اللامحدود لفصيل إسلامي متمرد على الشرعية، ومستثمَر بشكل مباشر أو غير مباشر لخدمة الإستراتيجية الإسرائيلية التي سعت إلى تغيير قاموس النضال الفلسطيني من مفهوم المقاومة إلى دائرة (الإرهاب) بشكل غير نزيه لكنه أقنع قدرا غير ضئيل من الرأي العام الدولي، والعمل عبره على نقل القضية الفلسطينية من طبيعتها الإنسانية التي يقاوم فيها أصحاب الأرض محتلا، إلى مظهرها الديني الذي تحارب فيها مجموعات إسلامية دينا آخر رسخ نفسه لدى الرأي العام كدين مُضطهد (اليهودية)، وطالما سعت إسرائيل لنقل المعركة إلى هذا الحيز الذي يمكن أن تحاجج فيه بقوة.
أما دفاعه المستميت لدرجة الانفعال عن الدولة المدنية في طرابلس التي تتعرض لهجمة الجيش الليبي، فنتيجة لعدوى حساسية خاصة تسربت له من حساسية السلطة القطرية تجاه قيادة الجيش العامة، لأن قطر المذعورة منذ البدء كغيرها من النظم غير الدستورية من ظاهرة مطالب الحشود بالحريات السياسية، كان لها مشروع يسعى لانتكاسة الربيع العربي صوب نظم حكم دينية لا تشوش على وجد التغني بالحكم الرشيد لدى هذه الدول القبلية، ومشروع بناء الجيش في المنطقة الشرقية من ليبيا التي لم يكن لهذا التيار نفوذ عليها أجهض هذا المشروع القطري الذي قد يفضي لو نجح لأن تؤجر النفط والغاز الليبي مثلما طمعت في تأجير قناة السويس في مصر. وعلى العموم كان من الممكن أن تنجح في هذه الطموحات التي يخدمها المال الوفير كما نجحت في جلب كأس العالم إليها بالمال، ولكن ما تصورت أبدا أن تؤجر عقلا مثل عقل المفكر عزمي بشارة الذي تحول إلى أداء إعلامي يشتم أو يكيل المديح بعد أن كان مرجعا في التحاليل الذكية والموضوعية التي تضع الكثير من النقاط على الحروف.
النخب الليبية لديها القلق نفسه والخوف من عسكرة الدولة، وتحارب من أجل الدولة المدنية، لكنها تريد أولا أن تعيش ولا تُذبح من قبل هذا التيار المحارب للجيش، كي يمكنها أن تدافع عن الدولة المدنية، لأنها لا تستطيع أن تدافع عنها برؤوس مقطوعة .