المضمون في الشعر
عمر أبو القاسم الككلي
في مقال سابق لنا بعنوان “المضمون في القصة والرواية”1 أشرنا إلى ما يعانيه مفهوم المضمون، من بين المفاهيم الأدبية كافة، من غموض وزئبقية.
وفي المقال الحالي نحاول أن تلمس طبيعة المضمون في الشعر.
يرتبط الشعر، أكثر من أي جنس أدبي آخر، بوجدان ومشاعر “شاعره”. وليس اعتباطاً أن سُمي هذا النوع من القول “شعراً”. ذلك أن اللفظة مشتقة من الشعور. لذا نرى أن المضمون الذي يحدد شكل الشعر هو الحالة النفسية والوجدانية، أي الشعورية، لقائله. ولقد انتبه الناقد والمُنظر البلاغي عبد القاهر الجرجاني إلى ذلك منذ قرون بعيدة. ففي مناقشته وشرحه لبيت النابغة الذبياني القائل مخاطباً الملك النعمان بن المنذر معتذراً 2 منه:
فإنك كالليل الذي هو مدركي… وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
إذ يعترض النقاد التقليديون على تشبيه الملك بالليل. فما دام المقصود هو اللحاق به أينما وُجد، كان المذهب السليم أن يشبهه بالنهار. إلا أن الجرجاني ((400 – 471هـ/1009- 1078) يرد على ذلك من زواية اعتباره للحالة النفسية التي سيكون عليها الشاعر الهارب لحظة أن يدركه الملك الغاضب الذي يطلبه. يقول3 د. كمال أبو ديب شارحاً رأي الجرجاني “… هذه الصورة تتحرك في تأثيرها على صعيد آخر ينبع من الترابطات النفسية التي يثيرها الليل في النفس، وبذلك تجلو الصورة لنا لا أبعاد شخصية الملك وإنما أبعاد ذات الشاعر نفسه لحظة خلق الصورة”. ويقتبس عن الجرجاني قوله “فاختصاصه الليل دليل على أنه قد روَّى في نفسه فلما علم أن حالة إدراكه وقد هرب منه حالة سخط رأى التمثيل بالليل أولى”. وعليه تكون الحالة النفسية (= الشعورية) هنا هي مضمون هذا البيت الذي حدد شكله التعبيري.
ونفس الشيء ينطبق على البيت الشهير لأبي صخر الهذلي الذي يقول فيه:
وإني لتعروني لذكراك هزة… كما انتفض العصفور بلله القطر
فإن انفعاله الوجداني بمحنة افتراقه عن حبيبته وتشوقَه إليها هو ما أتاح المجال لذهنه لاستدعاء هذه الصورة الملتقطة من الواقع، ليحولها إلى تعبير جمالي مؤثر. هو المضمون الذي تولد عنه شكل هذا البيت.
في حدود اطّلاعي، لم أقرأ شعراً عربياً أو أجنبياً يصف العلاقة الحميمة بين الفارس وفرسه بروعة أبيات عنتر بن شداد التي جاء فيها:
يدعون عنترَ والرماحُ كأنها… أشطانُ بئر في لَبانِ الأدهَمِ
ما زلتُ أرميهم بغرة وجهه… ولَبانِه حتى تسربَلَ بالدم
فازورَّ من وقع القَنا بلبانه … وشكا إليَّ بعبرة وتَحمحُمِ
لو كان يَدري ما المُحاورة اشتَكى … ولكان لو علم الكلام مُكلِّمي
وما يعنينا هنا هو البيتان الأخيران. فهما يفصحان عن الانفعالات “العاطفية” المتبادلة بين الشاعر الفارس وفرسه في حمأة المعركة الضروس. فالفرس تحتدم انفعالاته وتتكثف وتشف حتى لتقترب من الأحاسيس والمشاعر الإنسانية. ولأنه يجهل “المحاورة” ويعوزه “العلم بالكلام”، صار “يُعبر” بإمكانياته الصوتية الحيوانية، وفارسه الشاعر يستشعر ذلك ويفهم عنه ويتعاطف معه وجدانياً. هذا الاستشعار والتعاطف من قبل الشاعر الفارس، أي حالته النفسية هذه، هي ما انبثق عنها هذان البيتان البديعان في شكلهما التعبيري هذا.
أريد أن أنبه إلى أن المقصود بالشكل، في الأمثلة التي استعنا بها وما في حكمها لتوضيح رأينا، هو الشكل اللغوي التعبيري وليس “القالب” الذي يُصب فيه هذا الفوران الإبداعي. ذلك أن القالب الذي تتخذه أبيات القصيدة العربية التقليدية متوارث وملزم، ولم يكن من الممكن الخروج عليه وتفجيره حينها.
1- عمر أبو القاسم الككلي. المضمون في القصة والرواية https://www.218tv.net /
2- معروف أن الذبياني شبب بزوجة النعمان وتغزل بها تغزلاً مفضوحاً في قصيدته التي مطلعها:
أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ … عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ
3- كمال أبو ديب. جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في الشعر ط3. دار العلم للملايين. بيروت- لبنان. 1984. ص 38- 39.