المحاصصة .. الأمر الواقع
عبدالحكيم بن عثمان
بعد أكثر من نصف قرن على اعتماد مبدأ المحاصصة في ليبيا؛ كأساس لتوحيد البلد وأخذها بعين الاعتبار سواء في الزمن الملكي أو زمن حكم القذافي لضمان تماسك البلد ووحدته على المستوى السياسي، فإن العديد من الأصوات تنادي بمبدأ التكنوقراط في تشكيل أي حكومة، أي اعتماد مبدأ الكفاءة في اختيار المناصب، غير أن حقائق الواقع فرضت خيارا وحيداً على أغلب متصدري المشهد السياسي هو ضرورة توزيع السلطة بين المكونات الرئيسية للبلاد.
منذ تأسيس ليبيا الحديثة عام 1951 ، وتولّي محمود المنتصر مهمة تشكيل أول حكومة له، وقبل إعلان استقلال ليبيا، كان الاتجاه العام بين النخب السياسية هو توزيع السلطة على أساس مناطقي.
المحاصصة في قواميس اللغة تعني تجزئة الكل إلى مكوناته الأساسية وحسب الاستحقاق الكمي للأطراف تكون المشاركة، والأمر لا يقتصر فقط على السلطة التنفيذية، بل كذلك السلطة التشريعية، التي تعد مصدر القوانين والتشريعات، فالمحاصصة تعد منهجا سياسيا يسمح لجميع المكونات بالمشاركة في العملية السياسية بدءا من الانتخابات وصولا للحكومة ومختلف الهيئات التابعة لها، ومن ثم تكون المسؤولية تضامنية في إدارة شؤون الدولة.
ولكن لماذا يستهجن البعض فكرة المحاصصة في تشكيل السلطة التنفيذية؟
المحاصصة لم يتم اقتراحها من قبل مفكر سياسي بعينه، ولم تكن كذلك بدعة من حزب سياسي في دولة ما، بل كانت، ضرورة موضوعية أفرزتها عملية تطور المجتمعات، وهي تشق طريقها نحو الاندماج الكامل لتنحسر الفروقات والاختلافات التي تستدعي أخذ المحاصصة بعين الاعتبار، . وليبيا ليست استثناء من الدول أو الشعوب التي لم تتجاوز مرحلة المحاصصة إلا بعد زمن طويل وتجارب عديدة على طريق التطور السياسي والاجتماعي. ونرى أننا مازلنا في مرحلة لم ينضج فيها الفكر السياسي المحلي ولم يتطور الوعي إلى حد نتجاوز فيه المحاصصة فالبنية الجهوية القبلية حاضرة بقوة في كل العهود السابقة من تاريخ ليبيا المعاصر.
فالجمعية الوطنية التأسيسية والمعروفة بلجنة الستين والتي تشكلت أواخر سنة 1950، كانت تضم 20 مندوبا عن كل إقليم، أي طرابلس وفزان وبرقة، يمثلون كامل التراب الليبي، تأسست على مبدأ المحاصصة، وكذلك الحكومة التي تم تكليف المنتصر بتشكيلها عن ولاية طرابلس في مارس من العام 51، باعتباره أحد مندوبي الإقليم، ولم ينته الشهر حتى تم تكليفه بتشكيل الحكومة الاتحادية المؤقتة للدولة الليبية، وكان عليه أن يختار شخصيات لتولي الحقائب الوزارية على عدة اعتبارات، من بينها ضمان مشاركة الأقاليم الثلاث لتمثيل أوسع لكافة الأطياف السياسية في ربوع الوطن .
وهذا ما دأبت عليه الحكومات التي تلتها، بقدر يحافظ على وحدة ليبيا، من حكومة الساقزلي حتى حكومة ونيس القذافي التي كانت آخر حكومات المملكة الليبية، مروراً بحكومات “بن حليم وكعبار والصيد وفكيني ومازق والبدري والبكوش”، إلى أن جاء العام 69، وفيها تم تشكيل الحكومات على مبدأ المحاصصة أيضا، ولكن على أساس الولاءات للنظام، وبناءً عليه فإن المحاصصة كانت متجذ رة في كل الأجسام السياسية والحكومات المتوالية حتى القذافي مع امتلاكه لسلطة مطلقة لم يتجاهل واقع البلاد الجهوي القبلي وحافظ على التوازن في توزيع السلطة بين الأقاليم ليضمن الولاء، فإذا كان أمين مؤتمر الشعب العام (رئيس البرلمان) من إقليم طرابلس فإن أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس الحكومة) يكون عادة من برقة، وفي العام 2011 ومع انطلاق انتفاضة فبراير فرض هذا الواقع نفسه بقوة على المجلس الانتقالي في العديد من القرارات ولعل الاستثناء المحدود كان في تشكيلة حكومة المكتب التنفيذي التي اعتمد فيها الدكتور محمود جبريل للحقائب الوزارية المعيار الثوري والأكاديمي، وكذلك الحكومة الانتقالية التي ترأسها الدكتور عبدالرحيم الكيب الذي على الرغم من اختياره لوزرائه على مبدأ التكنوقراط، فإنه اتكئ أيضا على مبدأ المحاصصة، واختار بعض شاغلي المناصب وفق المعيار المناطقي .
ومع استمرار أزمة تشكيل السلطة يطالب الكثيرون بتشكيل أي حكومة مقبلة على أساس الكفاءة، وبعيدا عن المحاصصة والمناطقية والجهوية، معتبرين أنها لن تكون في صالح البلد، غير أن الأمر الواقع ربما يفرض نفسه من جديد، فالمبادرات السياسية التي خرجت منذ فترة، وأبرزها مبادرة المستشار عقيلة صالح تقوم على ذات النهج، بأن يكون المجلس الرئاسي الجديد مشكلا من شخصيات تمثل أقاليم ليبيا التاريخية.
ترى عضو تحالف القوى الوطنية عضو المؤتمر الوطني العام سابقا السيدة أسماء سريبة أن المحاصصة المناطقية أو الدينية أو العرقية تعد كارثة، وتمثلت في التجربة العراقية واللبنانية، مشيرة إلى أن ليبيا تسير على نفس الخطى وربما وضع ليبيا أسوأ، منوهة بأن البلد الآن بات يسير على هذا النهج، بل ويرتكز إلى المحاصصة المناطقية بما فيها الدستور الذي كتب على هذا الأساس، بحسب وجهة نظرها. وكذلك كل المفاوضات والحوارات برعاية دولية وبمشاركة دول تنادي بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وترى أن السؤال المطروح في ليبيا بات من أين أتت الشخصية لا من هي، وبناءً عليه فإن الإجابة على هذا السؤال تحدد منطقة النفوذ وحدود القوة في مفاصل الدولة، ما يؤدي إلى القضاء على حلم دولة المواطنة.
وحذرت سريبة من أن المحاصصة أصبحت عنوانا أساسيا لتسوية الأزمة الليبية، دون الانتباه أن هذا النهج سيسير بليبيا إلى دولة فاشلة، منادية باستبدال مصطلح المحاصصة المناطقية بالمحاصصة السياسية، وعلى تحقيق ثقافة العمل الحزبي المؤسسي بحيث يسمح لجميع الأحزاب الفائزة في الانتخابات بالمشاركة في الحكومة لتحقيق أهداف وطنية مشتركة، ويتحملون مسؤولية إدارة البلد وعدم النظر لليبيا كأنها غنيمة .
ولا شك أن طرح السيدة سريبة جدير بالاهتمام غير أننا لابد أن نأخذ بعين الاعتبار حداثة ومن ثم ضعف تجربة الأحزاب السياسية في ليبيا. ولا يمكن لحياة سياسية صحية أن تقوم من دون أحزاب راسخة ومتجذرة تنقل المجتمع من مستوى العلاقات العرقية إلى العلاقات المدنية.
من جهة أخرى يرى الكاتب والصحفي عبدالله الكبير أن المحاصصة في الوضع الليبي الراهن، كما يطرحها بعض قادة المرحلة، تعني توزيع المناصب والمهام على الأقاليم الليبية التاريخية، وهو أسلوب متعارف عليه في الدول المنقسمة جهويا أو قبليا أو طائفيا أو عرقيا وفق وجهة نظره، ويرى أن هذا النهج ربما يفيد لتحقيق التوازن بين الأطراف المختلفة أو المتناحرة، في مرحلة يتعمق فيها الانقسام، كما أشار الكبير إلى أن هذا الأسلوب في تقاسم السلطة له عيوب وصفها بالخطيرة لتكريسها مبدأ الانقسام وتعطل الاندماج وتهدد الهوية الجامعة، كما أنها تحل محل الكفاءة والجدارة في إدارة الشأن العام.
وبحسب رأيه فإن الكبير لا يجد مخرجاً من الأزمة الليبية، سوى بالتوافق حول انتخابات برلمانية جديدة، تنهي أزمة الشرعية، وتأتي ببرلمان يمتلك الشرعية الوطنية لمعالجة الأزمات والتصدي للتدخل الخارجي وتحرير البلاد من القوات الأجنبية ومحاسبة المسؤولين على هذا المأزق الكارثي الذي أدخلوا البلاد فيه. ورغم وجاهة ما يطرحه الكبير إلا أنه ليس ثمة ضمانة لعدم إفراز البرلمان لشخصيات أو كيانات توجه المرحلة نحو تكريس المحاصصة. فالأمر يتعلق ببنية متجذرة يتعذر أن تنتج نقيضها مهما كانت درجة نزاهة وحرية الانتخابات.
بين رأي وآخر وتباين وجهات النظر، يظهر جلياً أن ليبيا تحتاج إلى مخرج من أزمتها، يبني شرعيته على قاعدة شعبية، من خلال إجراء انتخابات برلمانية، تحدد ممثلي الدوائر الانتخابية في المجلس التشريعي، وأن تشارك الأحزاب السياسية الفائزة والمختارة من الشعب، وكذلك الكتل النيابية، في تشكيل الحكومة المقبلة وتكون شريكا في تحمل المسؤولية، وفق عدة اعتبارات، أبرزها أن تكون جامعة لكل الليبيين، وتوحد مؤسسات الدولة، بعد انقسام أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية وتلاشي ملامح الدولة.