المثقفون وفن اللامبالاة.. مهرجان الخريف بالبيضاء (نموذجا)
عبدالله علي عمران
أقيم الأيام الماضية مهرجان ثقافي بمدينة البيضاء، تحت اسم مهرجان الخريف للشعر الفصيح والقصة القصيرة، وكان القصد من إقامته، هو إلقاء حجر في مياه الثقافة الراكدة، وتحويل بوصلة حديث الشارع، من أخبار الحروب إلى أخبار الأدب والثقافة. إلا أن النتائج، كانت مخيبة، لكون الخريف أسقط الأوراق وكشف سوءة الوضع الثقافي والإعلامي المشتت المتردي.
مر المهرجان بعدة مراحل، وكان بالنسبة لي تجربة مميزة وفريدة، فقد بدأ بفكرة (بسيطة) تتمثل في إقامة فعاليات شعرية وقصصية، وكانت شرارة بدايته من مقر إذاعة (صوت ليبيا)، على يد مجموعة من الإعلاميين والفنانين والمثقفين، وبعد عدة اجتماعات، قرر المجتمعون الاستعانة بأهل التخصص (الشعراء والقصاصون)، ومن هنا وجهت لي دعوة للمشاركة، في وضع هيكل عام وخطة شاملة للمهرجان.
في أول الاجتماعات، تبين أن ليس هناك أي خطة أو حتى خطوط عريضة، كل ما هنالك هي (رغبة قوية) من المجتمعين في إقامة مهرجان، فمن يطلقون على أنفسهم اسم (لجنة عليا للمهرجان)، لم تكتب سطرا واحدا في اجتماعاتها السابقة، وقد يكون ذلك مقبولا، فلم يتفق حتى تلك اللحظة حتى على منصب رئيس المهرجان ولا على آليات اختيار اللجان ولا طبيعة المهام المكلفة بها.
في الاجتماع الثاني تم الاتفاق على رئيس للمهرجان، وتحديد موعد ثابت لاجتماع أسبوعي دوري، ولكن ذلك لم يحل دون استمرار حالة الغموض والفوضى، فاختيار اللجان كان عشوائيا، يخضع بشكل أساسي لرؤية الرئيس، الذي يتخذ القرار ونقيضه في الاجتماع الواحد، وحتى مع اختيار بعض اللجان، كانت اللجان الأساسية (اللجنة الثقافية مثلا) لم يتخذ بشأنها قرارا نهائيا، والطريف أن رئيس المهرجان، كلف شخصا لا يمت للوسط الأدبي بصلة لكي يتواصل مع الأسماء المقترحة لتولي مهام اللجنة الثقافية، ووسط هذا التخبط، أعلن رئيس المهرجان عن تشكيل لجان المهرجان، وهي القشة التي قسمت ظهر البعير، فقد بدأت مع ذلك الإعلان موجة كبيرة من الانتقادات لأعضاء اللجان، بل اختلف عضوان من نفس اللجنة، على اسم رئيس اللجنة، فكل واحد منهما يدعي رئاسة اللجنة ويتهم الآخر بعدم المصداقية في نشر الأخبار.
في اليوم التالي أعلن رئيس المهرجان استقالته، وعلى الرغم من أنه كان ينتقد طريقة استقالة السياسيين إلا أن استقالته كانت شبيهة باستقالاتهم، غامضة ولا تستند أصلا إلى أي مهام كان يؤديها، فكما يحذرنا السياسيون من الفراغ السياسي، إذا هم تركوا مناصبهم، مع أن البلاد تطحنها الأزمات، كانت استقالة رئيس المهرجان، فحتى تلك اللحظة لم تكن هناك لجنة ثقافية، ولم تكتب ورقة واحدة كخطة للمهرجان.
أنا من بين الذين لم يعلموا بالاستقالة إلا خلال الاجتماع الدوري، فقد حضر ما بين 4 أو 5 أشخاص، وغاب البقية، رئيس المهرجان وبعض من رفاقه، وكان المجتمعون في حيرة، هل يبحثون عن رئيس جديد؟ أم يبحثون عن طريقة لإقناع الرئيس السابق بالعودة، فقد كان هناك من يرفض العودة لنقطة (الصفر) فتكليف رئيس جديد يعني البدء من جديد، وكانت وجهة نظري إننا مازلنا أصلا في نقطة (الصفر)، وبينما كانت هناك اتصالات ومحاولات لثني رئيس المهرجان عن قراره، عدت إلى البيت، وفتحت برنامج (ميكروسوفت وورد) وبدأت بوضع أهداف عامة للمهرجان، وخطة للفعاليات الشعرية والقصصية.
في الاجتماع التالي، أعلن المكلفون بالتواصل مع رئيس المهرجان، فشل كل المساعي لرجوعه، أما أنا فكنت أحمل في يدي 4 ورقات، عليها خطة عامة، تتمثل في فعاليات شعرية وقصصية، تقوم أساسا على جمع عدد الشعراء الشباب (تتم دعوتهم) والمواهب الجديدة (يختارون عبر مسابقة)، بحيث يكون الهدف من المهرجان، الاحتفاء بالمواهب الجديدة والوجوه الشابة، على أن توجه دعوة عامة لكل الشعراء والقصاصين، وذلك للخروج عن الفكرة النمطية للمهرجانات، التي تشارك فيها نفس الوجوه المعروفة في مجالي الشعر والقصة.
بسبب تلك الورقات، أتفق الحاضرون على تكليفي برئاسة المهرجان، وأن أضع تصورا عاما للجان، أقدمه لهم في الاجتماع القادم، وبالفعل بدأت في التواصل مع البعض، لكي أحصل على موافقتهم المبدئية، وأعددت قائمة ببعض الأسماء، لكي أقدمها للمجتمعين، وفي موعد الاجتماع، لم يحضر أحد، سوى شخص واحد، وذلك لأننا أصلا نجتمع في مكتبه، وانتظرنا حتى المساء، ثم قررنا تأجيل الاجتماع.
أكدت لي تلك الحادثة، أننا أمام وضع ثقافي متردي، هذا إضافة للفكرة الموجودة لدي مسبقا، أن العمل الجماعي لا وجود له أصلا، ولكن لأن الأمر أصبح بالنسبة لي تحديا، قررت الاستمرار، و بدأت في وضع اللمسات الأخيرة على خطة الفعاليات، بل وبدأت التواصل مع بعض المشاركين، وأن أضع نصب عيني، أن المهرجان يقام بدون أي دعم، فالمشاركون سيقيمون على حسابهم الخاص، ويجب أن يكون لديهم علم من البداية، كما بدأت في وضع تصور عام للمسابقة، بوضع بعض الشروط، وبالتشاور مع المختصين، في هذا المجال، أعلنت عن انطلاق المسابقة والبدء باستقبال المشاركات. وهذا ما يعني أن قطار المهرجان، قد وضع فعليا على السكة، وكانت تلك الخطوة مغامرة غير مسبوقة، فلا وجود لدعم أو حتى لفريق عمل، فأنا أمام مهرجان (الشخص الواحد).
مرت فعاليات المهرجان، وسط حضور ضعيف، ليس من الجمهور العادي، بل من النخب الثقافية، التي لم يكفها الغياب، بل عاتبت لعدم إشراكها في الفعاليات، متجاهلة (أهداف المهرجان) التي تستهدف المواهب والوجوه الشابة، ومتجاهلة أيضا (إمكانيات المهرجان) حيث بالكاد نحصل على سكر لإعداد الشاي، فكيف يمكن استضافة مشاركين من مدن بعيدة؟
حجم المشاركات في المسابقات، كان متواضعا، رغم أنه كان مقبولا بالحد الأدنى في مجال القصة، وانسحب الكثير من المشاركين، بعد قبول مشاركاتهم، واعتذرت المشاركات من العنصر النسائي عن عدم قدرتها على تزويدنا بسيرة ذاتية، وأنها تفضل المشاركة بأسماء مستعارة.
غياب التغطية الإعلامية، كان واضحا، ليس بسبب تقصير اللجان المكلفة، بهذا الجانب، بل لأن المراسلين والإعلاميين، كانوا ينتظرون دعوة للتغطية، بدلا من أن يبادروا لتغطية الحدث، وحتى من وصل متأخرا، قام بتغطية نمطية، لا تتعدى التقاط الصور لبعض معارفه، وتضييق الصورة لكي لا تبدو القاعات خالية، وإجراء مقابلات قصيرة مع بعض الشخصيات بشكل عشوائي، دون أن تكون لديه حتى أسئلة تطرح على من يجري معهم مقابلاته.
ما أود قوله بعد هذا السرد التاريخي لأحداث المهرجان، هو أنني اكتشفت مدى ضحالة وهشاشة المشهد الثقافي، بل ومدى تعقيده أيضا، فقد تبين لي أن المثقفين، هم انعكاس للمجتمع، وليس العكس كما يفترض به أن يكون، فقد تجلت أمامي حالة الاستقطاب الجهوي والأيديولوجي في الوسط الثقافي، حين رفض مثقفون مشاركة مثقفين آخرين بسبب الانتماء الأيديولوجي، ورفض مثقفون المشاركة بسبب عدم وجود أقران لهم، بل البعض اشترط للمشاركة وجود أسماء بعينها.
الأهم من هذا كله، أن غياب المشروع العام، هو السمة العامة لكل الأوساط الليبية، بما فيها الوسط الثقافي، لا توجد خطة للمهرجانات، ولا للطباعة والنشر، لا يوجد رعاة، بل لا يوجد حتى مثقفون قادرون على إنجاح أي محفل ثقافي، لا توجد قاعدة بيانات، يمكن الانطلاق منها، بل لا توجد لدينا حتى أهداف للثقافة، ما الدور الذي يجب أن تؤديه الثقافة؟ وما الخطط الممكنة لتأدية هذا الدور.
فالبيوت الثقافية والنوادي الأدبية، تعمل بشكل عشوائي، ودون أدنى تواصل فيما بينها، اللهم ما كان عن طريق العلاقات الشخصية، دع عنك أن المناصب الثقافية، توزع وفقا لمعايير قبلية وجهوية، مما يشير بقوة، إلى عدم وجود أي فواصل تذكر بين الإنسان العادي وبين من يحملون صفة المثقف.
والغائب الأكبر، هو غياب المؤسسات التعليمية، أليس من المفترض أن تكون هذه المهرجانات، حدثا مستهدفا من طرف أقسام العلوم الإنسانية، مثل قسم اللغة العربية، خاصة أولئك المهتمون بالشعر والقصة، أم أن الأمر بالنسبة لهم لا يتجاوز كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه، دون أن يرتبط الأمر بالأحداث الثقافية؟
وفقا لهذه النتائج، ولو أننا وضعناها في سياق الأهمية التي يعزوها المفكرون والفلاسفة لأهمية الثقافة، فإن البلاد مقبلة على كارثة، فإذا أخذنا بوجهة النظر التي تقول أن الاهتمام بالثقافة والأدب معيار على تقدم الأمم وعلى وعي الشعوب، فلن نقول أننا في بلد متخلف جاهل، بل ولا يرجى تقدمه أو ارتفاع مستوى وعيه في الوقت القريب المنظور، وذلك لغياب حالة التنافر والصراع الطبيعي، بين النخب الثقافية المنفتحة، وبين جمود و صلابة المجتمع، وحدوث حالة من التماهي التام بين النخبة والمجتمع، و تبنيهم لذات المعايير، والفارق أن أحدهما ينتج نصا والآخر ينتج قيما.