اللبنانيون يخلعون “صرماية السيد”
رفعت المحمد
الرهان على الذاكرة يعد السمة البارزة للقادة السياسيين في منطقتنا، ما يفسر تكرارهم للأخطاء مع توقع ردود الفعل ذاتها، ويبنون على ذلك خططهم وبرامجهم. وفي لبنان يحاول قادة الصف الأول، حزبيين وطائفيين، أن يقودوا البلد بالعقلية ذاتها، مستندين في ذلك إلى إرث باتت خدعه مكشوفة للجمهور الذي أظهر في الحراك الأخير وعيا عميقا، هز الأساسات التي بنى عليها أولئك سلطتهم. وكشف هجوم أنصار حزب الله وأمل على المعتصمين في ساحة التحرير، واعتدائهم المهين على المتظاهرين بالعصي والسكاكين، وحرقهم الخيام، أن تمرير اعتداء الحزب في أحداث أيار 2008 على شرعية الدولة ورفضه أي سلطة لا تكون دمية في يده، كان الضوء الأخضر الذي أعطى للحزب فرصة تكرار ما حدث، وأن اللجوء للساحات حلال حين يخدم مصالحه، وحرام حين يهز عرش سطوته الزائفة، ليردد اللبنانيون قول الشاعر: “أحرام على بلابله الدوح….حلال للطير من كل جنس؟!”
كان يجب على اللبنانيين الانتباه جيدا والتيقظ لهذا التغلغل المليشياوي لحزب الله داخل مفاصل الدولة اللبنانية مذ أطلق أنصاره ما يمكن تسميتها اصطلاحا “ثقافة الصرامي” عقب حرب تموز للبرهنة على الموقف الداعم للحزب في حربه على إسرائيل عام 2006 وإبداء الاستعداد للتضحية بالبلد كلها مقابل إثبات صواب مواقف أمينه حسن نصرالله. ولم يتردد الكثير من جمهور الحزب من ترداد العبارة الشهيرة “فدا صرماية السيد” للتعبير عن استعدادهم للذهاب بالبلد إلى المجهول ليس فداء لكرامة الموقف إنما لـ”صرماية السيد” فأي مهانة وذل جرى تحميله للبنانيين في هذا الفداء المريض، والذي تجسد فعلا بتعطيل الحياة بشكل كامل في لبنان مدة عامين ونصف لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة، عبر نصب الخيام في الساحات العامة والاعتصام، وانتهاء بأحداث أيار.
ثقافة الصرامي لم تقتصر على أنصار حزب الله، بل امتدت إلى أعدائه أيضا، ففي حادثة الإرهابي أحمد الأسير أطلق أنصاره حملة إلكترونية لتأييده أطلقوا عليها “فدا صرماية الأسير” في تكريس لثقافة تنصيب بطل من ورق وعدم احتكار الأمر على طائفة بعينها، وانتشر الأمر ليصل أبعادا خطيرة في أزمة موقف السيدة فيروز من مشاركة مليشيا حزب الله في سوريا والادعاء بأنها تدعم ضمنيا هذا التدخل، وما رافق ذلك من استنكار الكثيرين من عشاقها لهكذا موقف لو صح فعلا، الأمر الذي حدا بالمدافعين عن موقفها هذا لإطلاق حملة تعزز موقفها.. ولتكون الصرماية حاضرة أيضا في شعار “فدا صرماية الست”.
لطالما كان الحذاء حاضرا في ذهنية عبيد الأنظمة القمعية في وطننا العربي، معبرا عن دونيتهم وسقوطهم النهائي في مستنقع الذل، ليرتبط عمق ولائهم بمدى انسحاقهم الحذائي، وقد كشفت ثورات الربيع العربي عن بعض النماذج التي لم تتورع عن كشف تمسحها بالحذاء الرمز، بل تطور الأمر في سوريا مثلا إلى إقامة نصب تذكاري لـ”البسطار العسكري” في حالة ولاء مريض. وكشف تبدل بعض المواقف عن أن الولاء قد يتغير بنوع الحذاء ونمرته، فالصحفي العراقي منتصر الزيدي الذي سجل لدى معادي الإمبريالية موقفا مشرفا، بقذفه الرئيس الأميركي جورج بوش بحذائه بمؤتمر صحفي، عاد بعد فترة ليعلن وقوفه مع “صرماية بشار الأسد” التي سحقت جموع المحتجين من الشعب السوري، وكأن الأمر رهن بنوع الحذاء ومن يرتديه.
اللبنانيون في احتجاجاتهم الأخيرة كشفوا عن وعيهم العميق لحجم الخطر الذي يشكله الولاء الأعمى لـ”صرامي الزعماء”، وفجروا ذاكرتهم التي تختزن كل المواقف المهينة التي قادهم إليها زعماء الطوائف وأمراء الحرب، وفي كل شعار يرفعونه أو هتاف يرددونه في ثورة وعيهم الناضج هذه، إنما يخلعون صرماية كل زعيم خدعهم لسنوات طويلة، ليضربوا بها رأسه مرددين: “كلن يعني كلن”.