القناعة بمعانقة الكرامة واحتضانها
عمر أبو القاسم الككلي
يرى جان بول سارتر أن الحب علاقة صراعية بين إرادتين. إنه “صراع بين حرية الأنا وحرية الآخر”(1: 182)*. فكل طرف من طرفي علاقة الحب يتعالى على الآخر مستهدفا تحويله من شيء لذاته (أي كيان إنساني متحرك وفي تجدد مستمر، مثل نهر هيراقليطس، ومستوعب لذاته) إلى شيء في ذاته (أي إلى جماد، أو موضوع قابل للسيطرة والامتلاك) ويقاوم، في نفس الوقت، المحاولة المماثلة التي يقوم بها الطرف الآخر. فـ “كل منهما يحاول أن يؤسس ذاته ذاتا بواسطة تأسيس الآخر موضوعا”(1: 173). فنحن “نريد أن نتملك حرية الغير من حيث هي كذلك. وليس ذلك من قبيل إرادة القوة: فالطاغية يسخر من الحب، ويكتفي بالخوف”(2: 592).
وهكذا فإن المحب “يطالب بنوع خاص من التملك. إنه يريد امتلاك حريته بما هي حرية”(2: 593).
يظل الطرف الأول (المحبوب) شيئا لذاته، مالكا، محاولا جعل الطرف الثاني (المحب) شيئا في ذاته، مملوكا، “ذلك أن المحبوب يدرك المحب كموضوع – آخر بين موضوعات أخرى، أعني انه يدركه على أساس عالم، ويعلو عليه ويستخدمه”(2: 599).
ومن هنا ينشأ توتر علاقات الحب ويترتب أذاها الذي يمس المحب.
بالنسبة إلي لم توجد في حياتي علاقات حب ملتهبة. في العلاقات البسيطة والقليلة التي عشتها لم أمكن الطرف الآخر من أن يمتلكني ويحولني إلى شيء في ذاتي. ظللت دائما، وإن ليس بسهولة كاملة، شيئا لذاتي. ولا أعتقد أنني سعيت، بشكل واعٍ، إلى امتلاك الطرف الآخر وتشييئه.
نعم، جربت لذعات الحب وضغط الشوق، ووجع الهجران. لكنني كنت، بشكل عام، ولأني شيء لذاتي، متوازنا في مشاعري ومتحكما في انفعالاتي.
مؤخرا قالت لي صديقة: أنتم، تقصد الأدباء، لطيفون ورقيقون وصادقون في مشاعركم، لكن إذا انتهت العلاقة ينتهي أثرها في نفوسكم. ملاحظتها هذه تصدق عليَّ إلى حد معتبر. وإذا صحت ملاحظتها من أن هذه ظاهرة يتميز بها الأدباء، فتفسيري أن ذلك مرده إلى أن الأدباء، أي المبدعين، يصرفون مشاعر اللوعة والأسى التي يمكن أن تنتابهم بسبب انتهاء العلاقة في أعمال إبداعية وبأشكال ودرجات مختلفة.
بشكل عام، لم أكن أمتلك الجسارة اللازمة للمبادرة بتكوين علاقات غرامية أو علاقات حب. كنت وجلا وأخشى أن أواجه بصدود من نوع ما. الصدود الذي يمكن أن تواجه به مبادرتي يجرح ذاتيتي المعتدة بنفسها وتضع كرامتها فوق كل اعتبار.
لذا، ظللت مكتفيا بمعانقة كرامتي واحتضانها!.
هذا اقتضى أن يقتصر الأمر لديَّ على الاستجابة للمبادرات التي تعرض عليَّ من قبل المرأة. وهي نادرة بالطبع. وهذه أيضا كانت تربكني فأضطرب في التعامل معها، خشية ألا تكون استجابتي ممتثلة لما يتوقعه مني الطرف الآخر. فالطرف الآخر هنا يصيب وجودي لذاتي بالاضطراب ويشوش على حريتي، لأنه يصبح عنصرا فاعلا في حركة وجودي.كأنه يعيد تشكيلي: تشكيل ذاتي ملغيا حريتي. إنه يتجاوزني ويتعالى عليَّ. إضافة إلى أن انعدام المبادرة لديَّ يضيق خياراتي ويحد من قدرة إرادتي على الفعل. يحد من حريتي. فأنا مضطر إلى أن أحصر اختياري على العدد الضئيل جدا من المبادرات التي تعرض عليَّ، خصوصا وأن العارضات لا يأتين صفا، وإنما فرادى وفي أزمنة متباعدة!.
أهم علاقة حب أثرت في حياتي حدثت وأنا في حوالي الثامنة عشر. كانت الفتاة هي التي قامت بالمبادرة وأدارت دفة العلاقة وسط خضم وجلي وارتباكي واضطرابي. كانت مرهفة وصبورة وتمتلك قدرة على التغلغل الناعم، وكانت متحررة تحررا عفويا لا ادعاء ولا تعمد فيه.
مع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، لم أستطع الاحتفاظ بالعلاقة طويلا. يبدو أنها يئست مني. ربما لأنها لم تستطع تحويلي إلى شيء في ذاتي.
وأظن أن هذه العلاقة أضرت بيَّ أكثر مما أفادتني. لأن الفتاة كانت نموذجا نادرا حينها (بداية سبعينيات القرن الماضي) وجعلتني أطمح، بعد انفصام علاقتنا،إلى أن تكون علاقاتي المقبلة مع فتيات في مستوى انفتاحها وتقدمها، على الأقل. لم أعد أرضى بما دون ذلك.
لكن، للأسف، لم يصادف وأن التقيت بالمثال المبتغى.
المصادر والمراجع والهومش:
* يشير الرقم الأول إلى رقم المصدر أو المرجع في القائمة أدناه، ويشير الرقم الثاني إلى الصفحة المأخوذ منها.
1- الدكتور حبيب الشاروني، فلسفة جان بول سارتر، منشأة المعارف- الإسكندرية (د. ت).
2- جان بول سارتر، الوجود والعدم: بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار الآداب- بيروت، ط1، 1966.