العورة في القمّة
فرج عبدالسلام
كثيرة هي المآسي التي تعانيها أمة العرب والمسلمين، ومحاولة حصرُها وتشخيصُها قد تُدخلنا في خانة العبث، والسّخرية، والكوميديا السّوداء، وبالتالي في تناقض ربما أكثر حتّى مما عبّر عنه “فرانز كافكا” في العديد من نصوصه الأدبية. وإذا ما انتقينا موضوعا واحدا يُقدّمُ أدلّة واضحة يصعُب دحضُها حول مكانةِ المرأة في العقلين العربي والإسلامي، وهما في أغلب الأحيان نسيجٌ متجانسٌ لا مجال للتفريق بينهما، سنرى تفسيرا لا يَقبل الشكّ للهوّة العميقة التي تفصل العرب عن بقية شعوب الكون المتحضرة.. أقول هذا ولم يبرح خيالي مقطع ذلك الفيديو الذي يُظهرُ جمعاً من الذكور المسلمين المنتشين، ومن “الباكول” الذي يضعونه فوق رؤوسهم يبدو أنهم من أفغانستان، وهم يَجلدون بقسوةٍ نساءً مقعيات في مكان عام، ونعرفُ طبعا أن الجرم المُرتكب ليس الزنا، وإلاّ كانت العقوبة حفرةً في الأرض ورجماً حتى الموت، ولكن هذه العورة/ الحرمة كما يُطلق على الإناث في العديد من المجتمعات العربية ولا بد أن للّفظ مرادفا ومطابقا في لغة هؤلاء القوم، قد تكون خالفت القوانين الذكورية المقدسة وما أكثرها، وربما أظهرت بقصدٍ أو بدونِه خصلة شَعرٍ ما، أو أبدت عدم رضىً لأب أو زوج، أو حتى لأخٍ قد يكون أصغر منها… المضحك المبكي في الأمر، هي صيحاتُ “التكبير” المنتشية التي أطلقها منفذو العقوبة وجمهورُ المشاهدين بعد جلد تلك المسكينات وإذلالهن، فلا بدّ وأنْ ارتفعت في أجسادهم نسبة (التستسترون) إلى حدودها القصوى بعد أن أدّوا وظيفتهم الأخلاقية تجاه مجتمعهم، والتزموا بعقيدتهم التي أمرتهم بذلك، أو هكذا ظنّوا.
يقودُ هذا الحديث إلى مجلّة نسويّة تصدرُ في السعودية ومشهورةٌ بصورها البراقة التي غالبا ما تكون لنساء غاية في الأناقة، من غير السعوديات طبعا… المهم ّأن المجلة تشير بفخرٍ إلى تقرير للبنك الدولي أوردته تحت عنوان “احتفاء عالمي بتمكين المرأة السعودية” يُفيد أنّ السعودية جاءت في صدارةِ الدول الأكثر تقدماً، حيث تحسَّنت في ستةِ مؤشرات من أصل ثمانية، وأنها حقَّقت قفزة نوعية غير مسبوقةٍ في تقرير المرأة، كما صُنِّفت بأنها الأكثر تقدماً وإصلاحاً بين 190 دولة حول العالم، لتصبح بذلك الدولة الأولى خليجياً والثانية عربياً… وبقدر ما نفرحُ كثيرا، ومن قلوبنا، لأيّ منجزٍ يحقّقهُ بلدٌ عربيّ وبالأخصّ في مجالي المرأة وحقوق الإنسان، إلا أننا نعرف تماما كيف تُعدّ مثل هذه التقارير عن بُعد وباستخدام انموذج قياسٍ ودراسة لا علاقة لهما بالواقع، مثلما تحدثت بعضُ المنصّات عن مركز متقدم لليبيا في مجالي التعليم والصحة في السنين الأخيرة رغم ما يعيشه الليبيون من خراب يصعُب وصفه… وبالعودة إلى الشقيقة السعودية فمن لا يعرفُ المكانة المتدنية والمهانة التي تتعرّضُ لها المرأة السعودية، فهي لا تختلف كثيرا عن غيرها ممن كُتب عليهن الشقاء في فسطاط المسلمين، وأجزمُ أن هذا الفكر الذي يحتقرُ المرأة ويضعها في مرتبة دونيّة قد خرج من جزيرة العرب عن طريق الوهابيين ومن يلف لفهم، هذا الفكرُ المتحجر الذي لا يؤمن بأيّ دورٍ للمرأةٍ إلا كأداةٍ لإمتاع الذكور، وكأداة للاستيلاد، وخادمةٍ للبيت… ونعلمُ علمَ اليقين أن هناك عنفا قانونيا وعنفاً اجتماعيّا ممنهجا يمنحُ الرجل حق ضربِ المرأة وحتى قتلِها باسم الشرف، ناهيك عن معاملتها باحتقار. وحتى المكرُمَة التي أسبِغَت على السعوديات بالسماح لهنّ بقيادة السيّارة، جاءت في سياق ضغط ٍسياسيّ خارجيّ، وليس عن قناعةٍ بحق المرأة في القيام بذلك أسوة بالذكور. لكن في جميع الأحوال فهذا الحق لن تستفيد منه غالبيةُ النساءِ الساكناتِ في مجاهل العقل الذكوري المتحجّر في أنحاء كثيرة من مهد انطلاقة الفكر الوهابي.
فالمرأة توصفُ حتى اليوم بمصطلحات أقل ما يقال عنها إنها دُونيّة تحطّ من مكانتها، فهي “الحُرمة” و “العيلة” وفي أحسن الأحوال تُحرم من كينونتها واستخدام اسمها فتكنّى بـ “أمّ فلان” وبالطبع لا بدّ أن يكون هذا الفلان ذكراً حتى لو كان أصغر أبنائها، أما أسوأ توصيفات الأنثى على الإطلاق فهو وسمُها بـ “العورة” التي يصرّ المجتمع على استخدامه وتحويله لشكل طبيعي من أشكال مخاطبة المرأة. وفي بلادنا ليست أفضل حالا بكثير، فهي العقرب، وهي الحفيانة، إلى غير ذلك من أوصاف التبشيع…
مع كل هذا يخرج علينا أنصار المجتمع الأبوي معلنين بأن مجتمعاتنا بخير، وأنّ المرأة العربية تمر بأزهى عصورها، وأنّ الإسلام كرّم المرأة، مع أن واقع الحال يشي بغير ذلك، حتى إن كان ما يقاربُ النصفَ من مجتمعاتنا معطّلٌ ماديّا وفكرياّ، الأمر الذي ما يزال يُنتج عقولا مشوّهة ترى في المرأة حُرمة وعورة، والأنكى من ذلك الادعاء بأنها في القمة.