“العنصرية ووهم الأجناس”
عمر أبو القاسم الككلي
هذا كتاب (1) لازم لكل مثقف مهتم بالفكر وتاريخ التسامح واللا تسامح وإشكالياتهما وتداخلهما، منذ الحضارات القديمة وحتى الزمن الراهن. كتاب ثري زاخر بالفكر والمعرفة، يتحلى بالدقة ويغوص في الإشكاليات دون تبسيط ويمسك بعروة الموضوعية الوثقى.
وفي هذا المقال سنتعرض لتدقيقاته المتغورة في قضية العنصرية.
لم تكن العنصرية، إن على صعيدها “العرقي” أو الديني، مصاحبة للحضارات البشرية الأولى. والحروب التي كانت تخوضها الجماعات العرقية ضد بعضها لم تكن تشن لأسباب عنصرية، وإنما لأسباب اقتصادية وسياسية. فلم تكن مجموعة بشرية ما تعتقد أنها أفضل من مجموعة، أو مجموعات أخرى، مختلفة عنها لونيا ولغويا ودينيا وتراها، لهذه الأسباب، أدنى منها منزلة. فـ “لا توجد في الآداب القديمة مبالغات تتعلق بالعنصرية. على بعض اللوحات المصرية القديمة نجد صورا لشخصيات يختلف فيها لون الجلد دون أن نستنتج منها أية دلالات معينة. ويظهر احتمال كون بعض الأباطرة الرومان من السود بشكل تلقائي في الأخبار ولكنه لا يسجل على أنه حدث بارز”(ص: 522). إذ “لم يكن القدامى يسألون قط ‘‘ماهي ديانتك؟‘‘ وهذا السؤال مازال يبدو غريبا على الأسماع أيضا ليومنا هذا في كثير من الأقاليم الآسيوية والإفريقية” (1: 55)*.
وعلى صعيد العنصرية المتولدة من الدين، فقد ارتبطت “بأول الأديان التوحيدية الإبراهيمية، وهو الدين اليهودي. ورغم أن اليهودية ليست دينا تبشيريا، وإنما هي دين خاص بشعب محدد (قبيلة محددة) إلا أنه دين خُصَّ به شعب “اختاره الله” من بين كل الأمم التي خلقها وفضله عليها وأباح له أراضي وخيرات هؤلاء الأميين (=الأمميين) وأجاز له إفناءهم وتشريدهم (2). ولاحقا، مع ظهور المسيحية والإسلام، لم تقتصر العنصرية الدينية على الأديان في ما بينها، وإنما، مع التطور التاريخي لكل دين وتشعباته، نشأت العنصرية والحروب الضارية، بين طوائف الدين الواحد.
ذلك أن “الذي ظهر لنا بالبراهين وببحثنا للديانات الوثنية القديمة والمعاصرة، أن كثيرا من هذه الصراعات كانت ذات طبيعة سياسية واجتماعية محضة. وفي ما يتعلق بكبرى الديانات التي تؤمن بالله الواحد، نجد أن الموقف أكثر تعقيدا، ولكن نظرا لقصص الإقصاء، والعنف، يزداد الشك في أن هذه الديانات وقعت في مأساة بسبب سيطرة المكون السياسي عليها” (1: 358).
أما بالنسبة إلى التعصب للعرق والأمة (حيث التعصب، في هذه الحالة، يمثل عتبة العنصرية، أو هو مكافيء لها)** فيعود بالكلمتين إلى جذرهما في اللغة اليونانية. “فالكلمة اليونانية ta ethna (العرقية) كانت تشير عبر قرون إلى البشر الكثيرين الذين كانوا يشكلون قديما التجمعات السياسية الكبيرة في هذا الجزء من عالمنا” (1: 405).
إلا أنه “لم تكن هناك مشكلة عرقية حقيقية، بالمعنى الذي نفهمه اليوم” (1: 406). وأيضا “لم يكن مفهوم حق كل هوية ثقافية على حدة موجودا” (1: 406). إلا أنه “في مطلع ما نسميه بالعصر الحديث، صار الشعور العرقي يتسم بالغموض واللبس بسبب اختلاطه بالعنصر الديني” (1: 406). ويضرب المؤلف مثلا على ذلك بأول مثال عن التطهير العرقي وهو ذلك الذي حدث في أسبانيا عام 1492، الذي يعتبر بداية العصر الحديث لأنه نفس تاريخ اكتشاف أمريكا، حيث جرى في هذا العام “تطهير” أسبانيا من العرب واليهود.
في هذه الفترة تقريبا، جرت إعادة صياغة كلمة (أمة) “لتعطي واقعا أكثر اتساعا، وهو ‘‘الروح الثقافية‘‘ للدول المستقلة حديثا” (1: 407). ولفظتا “عرقية وأمة لا يتعارضان مطلقا، بل هما متشابهان. فالأمة كانت فقط إطار الهوية الأكثر ثراء من مجموع الهويات الثقافية المتنوعة البسيطة، بإضافة شيء إلى العرقية، لكنه من نفس طبيعتها” (1: 407).
لاحقا ظهرت “القومية المتعصبة والانحياز إلى العرقية” و لقد ظهر مصطلح “النزعة ااقومية” سنة 1810. وتعني القومية “في المقام الأول رفع الدولة- الأمة فوق كل الدول الأخرى” (1: 408). هذا الموقف، وهذا الهدف، استدعيا ترتيب الأعراق والأمم، حيث “على القمة يكون بطبيعة الحال تلك الأمم التي تظن أنها صاحبة الإرث العرقي الأنقى، أو التاريخ الثري بالانتصارات والانجازات” (1: 410). وهذا المسعى قاد إلى طرح نظريات مستقاة من العلوم البيولوجية، التي تضاعفت منذ منتصف القرن التاسع عشر. والواقع أن التمييز بين الأجناس له جذور أقدم من ذلك بكثير.
ففي الإنجيل “نجد تمييزا من نوع عنصري بشكل مبهمن وذلك عندما تم نسبة الأجناس البشرية الثلاثة إلى إلى أبناء نوح: سام وحام ويافث (هذا الأخير أبو الشعوب الآرية، التي سميت أيضا الأجناس ‘‘اليافثية‘‘)***. خلال العصور الوسطى عاد التمييز ليتخذ منحى سياسيا واجتماعيا: حام جاءت منه سلالة العبيد، ومن سام سلالة الكهنة ومن يافث سلالة الأسياد” (1: 522). ويشير المؤلف إلى أن ثمة اختلافا نوعيا “بين التعصب الديني والعرقي، والتعصب العنصري من جهة أخرى.
في الحالات الثلاث نجد أن كره الآخر المختلف يستتر وراء تأكيد مطلق، بينما نجده في الحالتين الأولى والثانية عبارة عن دفعات **** يمكن وصفها بغير المعقولة أو الانفعالية، والعنصرية تقام على أساس ‘‘علمي‘‘، وبالتالي فهي تقابل الإحساس بالذنب بأكثر الحجج الموضوعية والعقلانية التي يمكن إدراكها” (1: 523). وبذا فإن “جوهر العنصرية هو بمثابة الاقتناع، عن حسن نية، بأن مختلف الأجناس البشرية قد طورت حضارات متقدمة، لا على أساس ظروف تاريخية معينة، ولكن بسبب تركيب نفسي جسماني معين” (1: 523) وهذا يعني أن العنصرية تفترض “أن يكون بين […] السلالات تسلسل هرمي للذكاء، محدد مسبقا جينيا، وبالتالي ثابت على الدوام” (1: 523).
إلا أن البحث العلمي النزيه نسف فكرة وجود الأجناس من أساسها ، منذ سنة 1972، حيث أثبت عالم الوراثة رتشارد ليوانسون “أن معظم التنوع الوراثي البشري يمكن العثور عليه داخل الجنس الواحد” (1: 534). وأيده في ذلك عالمان آخران أكدا أن “الجنس ليس مفهوما علميا بل اجتماعي” (1: 534). فالاختلافات الحقيقية “تتوزع كليا [بين مختلف الجماعات البشرية] بشكل عشوائي” (1: 536). وبذلك تكون “المؤسسة العلمية قد أقرت موت الجنس كمعيار للتصنيف البيولوجي” (1: 536).
إلا أن هذا لا يعني أن العنصرية قد ماتت. فهي “لن تموت أبدا، وهي تجسيد حديث للتعصب، وهي في الأساس ظاهرة ‘‘طبيعية‘‘، ومقاومة العنصرية هي الإنجاز الاستثنائي المتعب والهش للإنسان المتحضر” (1: 544).
(1) مايكل أنجلو ياكوبوتشي. أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهره. تر. د. عبد الفتاح حسن. دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة. 2009. وأرقام الصفحات الواردة في المتن تحيل هذه الترجمة والطبعة.
(2) عمر أبو القاسم الككلي: جذور العنف الديني. في: عمر أبو القاسم الككلي. التجريف الثقافي: مقالات متنوعة. مجموعة الوسط للإعلام. بنغازي- طرابلس. ليبياز سلسلة “كتاب الوسط” 2020 ص 7. والمقال موجود أيضا على الرابط التالي: http://alwasat.ly/news/opinions/222963?author=1
* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع، ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة المقتبس منها.
** الواقع أن “العنصرية” مشتقة من “عنصر” وهو “العرق” أو “الجنس”. في حين يطلق “التعصب” على المواقف الدينية والفكرية والسياسية. لكننا نعتبر التعصب عنصرية بما أنهما يشتركان في كره ومعاداة الآخر المختلف.
*** هذا التقسيم مستمد أصلا من “التوراة”. ومازلنا حتى الآن نقول “اللغات السامية” و “الأجناس السامية” و “الأجناس الحامية”.
**** لعلها “اندفاعات” أو “دفاعات”.