العناد والوهم
عمر أبو القاسم الككلي
في قصيدة للشاعر المهم، صديقي العزيز، رفيق محنة السجن، محمد الفقيه صالح، الذي بكيته حين توفي، ولم أبك أبي أو أمي عند وفاتهما، والذي قام أكثر من صديقة وصديق بتعزيتي فيه كما لو كان أخي أو ابني، يقول:
بعض زادي عنادي،
وبعض الزاد أني هنا.
القصيدة التي لا أتذكر منها سوى هاتين الجملتين، كتبها محمد في السجن. وفي السجن تتجلى أهمية العناد، بل وضرورته. تتجلى أهمية معاندة الغوغائية والظلم والاستبداد. فالعناد هو الذي يحمي الروح من الانكماش والإذعان والاستسلام و ، بالتالي، الانمساخ واحتقار الذات. كما أن العناد هو الذي يؤدي بالشخص، في الأنظمة الاستبدادية المتوحشة، إلى السجن، وحتى إلى الإعدام.
إذن، العناد، في الحياة، وليس في حالة المكابرة في النقاشات، معين على الحياة بكرامة، ومعين على تماسك الشخصية واحترام الشخص لنفسه.
من هذه الزاوية، يعتبر العناد شكلا من أشكال المقاومة، شكلا من أشكال عدم الاستسلام. تعبيرا عن توهج النفس وعنفوان الروح.
أحيانا يختلط العناد بالتمسك بالوهم، وهذا أيضا ليس سيئا. فالوهم أيضا، الوهم الواعي بكونه وهما، يعين على الحياة.
أذكر في قصيدة للشاعر الفلسطيني على الخليلي، يقول ما معناه: أحاول رسمك.. أخطيء، وأقول وجدتك. أحاول.. أخطيء، وأقول وجدتك.
هو يتحدث هنا عن علاقته ببلاده السليبة فلسطين، والتمسك بعلاقة وهمية بها، تذكي روحه المعنوية وتشعره أن له بلدا يتملكها حتى في الخيال.
العناد والوهم هو الذي يدفع الأطفال والصبية الفلسطينيين إلى قذف الدبابات الإسرائلية والجنود الإسرائليين، المدججين بالأسلحة والدروع الحامية، بالحجارة. هم، بالطبع، واثقون من أنهم لن يهزموا الجيش الإسرائيلي بفعلهم هذا. وإنما يظهرون عنادهم، وينظفون دواخلهم من تغلغل الإحساس بالهزيمة. إنهم يقولون للإسرائليين أنتم تفوقوننا قوة، واحتللتم أرضنا وأربكتم حياتنا، وتحاولون إذلالنا، لكننا، في دواخلنا، لا نحس بالهزيمة، وسنقاومكم بكل السبل. إنهم يعرضون أنفسهم للأذاء والموت من أجل إبلاغ هذه الرسالة: “الانتصار يعني حرمان العدو من النصر”*
في شريط وثائقي عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، يتحدث ضابط كبير في قوة المراقبة الدولية في لبنان، عن كيف أن ربات البيوت اللبنانيات في صيدا خرجن لمهاجمة الدبابات الإسرائيلية بسكاكين المطبخ. هو نفسه وصف المشهد بأنه مروع ومؤثر. مؤكد أنهن كنا يدركن أن سكاكين المطبخ يعتمد عليها في تقطيع البطاطا والبصل والجزر…، وليس في مهاجمة الدبابات.
لكنه العناد المقاوم.
* ميشيو كاكو، مستقبل العقل: الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته، ترجمة سعد الدين خرفان، عالم المعرفة، الكويت، 2017، ص 381.