العقاب الذي يسبق الجريمة
سالم العوكلي
في روايته “الجريمة والعقاب” ابتكر ديستويفسكي تحليلا نفسيا يتعلق بالبحث عن عقاب ذاتي على جريمة قتل لم يعاقب القانون مرتكبها، لكن كافكا في رواياته اللاحقة يقلب رؤية ديستويفسكي ويطرح كابوسه الخاص المتعلق بالعقاب الذي يسبق الجريمة.
تحيلني كوابيس الواقع إلى حكاية كاتب شاب خطر بباله في إحدى الممالك العربية أن يكتب عن حقوق المرأة وحرية خياراتها، فهاجمه شيخ من على المنبر متهما إياه بالعلمانية والزندقة. قال الكاتب وقتها: كنت لا أعرف شيئا مطلقا عن هذه العلمانية، لكني أدركت أن حياتي أو حريتي في خطر فهربت وطلبت اللجوء في أوروبا، وتحولت فعلاً إلى علماني . بمعنى أنه عوقب بالنفي جراء جريمة (حسب منطق الشيخ) لم يرتكبها، وبعد أن نال العقاب أرتكب الجريمة (حسب منطق الشيخ) الذي يعتبر العلمانية جريمة وكفرا.
سأتناول في هذه المقالة ما تطرق له الشيخ محمد الدرسي في إحدى خطب الجمعة بشأن الكاتب خليل الحاسي، وفق ما ذكره شخصيا في رده المنشور بموقع ليبيا المستقبل بتاريخ 30 أكتوبر 2016، الذي ينفي فيه تكفير الكاتب.
ليس من الضروري أن ترد مفردة تكفير صراحة ولكن يمكن تهريبها عن طريق اتهامات أو سياقات اتهامية مواربة، كما ورد في رده المنشور بموقع ليبيا المستقبل “تكلّمت على هذا الرجُل “خليل الحاسي” وقلت: (هو مِن دعاة العلمانيّة) وله كلامٌ خطير في الله -جل وعلا- والأنبياء -عليهم السلام- ويطعن ويتكلّم في العلماء والفقهاء -رحمهم الله- وعنده استهزاء بالعبادات وغيرها من الأمور المعروف بها خليل وهو لا يُنكر هذا بل يَجهر به”.انتهى الاقتباس. لم ترد مفردة تكفير صراحة في هذا السياق، لكن هذه التهم الكبيرة أكثر من كافية لقتل الكاتب بدم بارد، وقد رأينا ومازلنا نرى الذين يُقتلون وهم خارجون من المساجد بتهمة الردة. كما أن تهمة العلمانية أصبحت رصاصة طائشة قد تصيب مخالف لهم في الرأي أو متحدث عن العلم في مقتل، مثلما كان يرمي النظام السابق تهمة الزندقة بكل من يخالفه في الرأي، وفي الحالتين يكون العقاب إما القتل أو الهروب إلى المنفى .
لا تكمن المشكلة هنا فقط في الإمام الذي أعلن رأيه باعتباره يملك منبرا (وسيلة إعلامية خاصة) ولكن في كون رأي هذا الإمام يشكل رأي شريحة واسعة من المجتمع ،خصوصا بين الشباب، وهذا الواقع الذي تقف خلفه عدة عوامل مرت بها المنطقة، خصوصا بعد الثورة الإيرانية ومحاولة تصديرها ومواجهتها بأئمة الوهابية عبر حرب الكاسيت الباردة بين الخمينية والوهابية التي انتشرت منذ بداية الثمانينيات بين الشباب الذين كانوا يتبادلون أشرطة هؤلاء الأئمة المتشددين الموظفين من قبل الساسة، هذا الواقع الجديد بدأ يحدث شروخا خطيرة في المجتمع ويقسم الدين إلى شيع وأحزاب، وأصبح التكفير، سواء كان صراحة أو مبطناً، الوسيلة الناجعة لإقصاء أي مخالف أو عزل أي فكر مخالف.
عندما كنا نعمل في بيت درنة الثقافي الذي افتتح عام 1997، وتم احتلاله عام 2011 من قِبل مجموعة إسلامية، كنا طيلة الوقت نُكفَّر من قبل الكثيرين في هذه المدينة الصغيرة ، وكان الفيس بوك مليئاً بالكتابات التي تصفنا بالمرتدين والملاحدة رغم أننا هيأنا جزءا في المقر كمسجد يصلي فيه العاملون في هذا البيت، وأقمنا محاضرات وندوات دينية لشيوخ أجلاء.
طالنا التكفير، أو الاتهام، حتى من بعض الكتاب والمحسوبين على الوسط الثقافي أو الفني في درنة، بمن فيهم وقتها أمين فرع اتحاد الأدباء والكتاب بشعبية درنة ، وحين ظهر التكفيريون علنا بعد 2011 كنت أقول لأصدقائي أن هذه الظاهرة ليست جديدة ولم تعد مقتصرة على المؤسسة الدينية، وكنا نعاني منها طوال عملنا في بيت درنة الثقافي وحتى قبله في صحيفة الإفريقي. صحيح لم يعلنها منبر ديني رسمي لكنها كانت وجهة نظر شريحة لا بأس بها من المجتمع بمن فيهم المحسوبون على الوسط الثقافي والإبداعي . الفارق وقتها أن هذه الاتهامات تظل اتهامات دون أن تجد من يترجمها إلى عقاب ملموس، أما الآن فليبيا مليئة بفرق الإعدام الجاهزة والمتشوقة للتقرب من الله حين تشم رائحة تكفير ، وهنا مكمن الخطر في خطبة الشيخ محمد الدرسي .
يقول راسل جاكوبي : “هؤلاء الذين خارج السلطة يقدمون نفس برنامج أولئك الذين في السلطة، عدا أنهم يقدمون قوائم مختلفة بالأفراد الذين يجب أن تطلق عليهم النار أو يلقى بهم في السجن.
لقد هرب خليل من تهديد التكفيريين المعلنين والمسلحين في درنة إلى مدينة البيضاء ليحتمي بها، لكن قاعدة هذه الفكرة واسعة، وفي هذا الاتساع لا تختلف المسميات التي تنطلق من عقيدة واحدة، وهي الوصاية على الدين، والإحساس بأنهم وحدهم حماة الله الذي هو، عز وجل، في غني عن العالمين، واعتقادهم الراسخ أنهم الوحيدون الذين يملكون الحقيقة المطلقة ولهم القدرة على الإطلاع على الأفئدة .
من جانب آخر ما عاد الأمر يتعلق بما تقوله من أراء عن الدين أو التدين ولكن أصبح كل كاتب معرضا للقتل لمجرد كونه كاتبا، وكل فنان، أو قانوني، أو قاضي ،مثلما كل عسكري أو شرطي محكوم عليه بالإعدام لمجرد كونه يعمل أو عمل يوما في هذه المؤسسة حتى وإن كان حافظا للقرآن ويصلي الأوقات الخمسة ويصوم ويزكي وحاج لبيت الله ، بل أن الشيخ نفسه مكفر من قبل جماعات أخرى أكثر تشددا، وحين تنطلق آلية التكفير العمياء لن ينجو منها أحد على الأرض لأنها تعطي للإنسان ما يتفرد به الله وحده وهو الإطلاع على الأفئدة ومحاسبتها.
من المفترض أن اتحدث في هذا السياق عن فضاء العلمانية الذي يلوذ به الآن ملايين النازحين المسلمين مارين بمجتمعات مسلمة لا تستقبلهم، وأسأل الشيخ لماذا؟ أو اتحدث عن قانون يجرم التكفير أو التحريض على القتل، أو عن دستور أو حقوق إنسان، لكني أنا نفسي خائف من تهم مشابهة، لأن كل ذلك مصطلحات كفرية في عقيدة شيوخنا اليوم، وأنا حقاً لا أريد أن أقتل بفتوى أو تهمة باطلة، ولا أن أترك هذا الوطن الذي أمشي فيه على تراب مختلط بعظام أجدادي الذين قاوموا الفاشية. لكني لا أملك إلا أن أقف مع الكاتب خليل الحاسي لأني أؤمن أن المجادلة بالحسنى ومواجهة الرأي بالرأي هي الوسيلة الوحيدة لإدارة الاختلاف وضمان حياة الإنسان التي قدسها الله وحرم قتلها، وإن الغلظة والفظاظة لو كانت من صفات رسولنا عليه الصلاة والسلام لانفض الناس من حوله، ولما وصل الإسلام إلى زمني وزمن الشيخ.
لن اتحدث عن كل الضمانات التي ابتكرتها المجتمعات البشرية لحماية حياة الإنسان، ولكن سأتكلم بلغة الشيخ عن قيم الإسلام نفسه التي ترسي مبدأ المجادلة بالتي هي أحسن، ومبدأ الاجتهاد حتى وإن كان خاطئاً ، والتي تراعي حرمة الحياة الإنسانية للمسلم وغير المسلم ، وأقول للشيخ الجليل محمد الدرسي (فكل من يقف على المنبر من المفترض أن يكون جليلا لأن المنبر سلطة): أرجوك لا تكن فظاً غليظ القلب حتى لا ينفض الشباب المسلم إلى الدول (العلمانية) التي تمقتها، نشدانا للأمان والاستقرار والعطف والرحمة . وتذكر حين تلتقي عيناك بعيني أبنائك أنك حرمت شابا من عائلته مدى الحياة وأنك جعلت أمه تثكله وهو حي . ألم تفكر في اللقاء بهذا الشاب ومناقشته كما يفعل أي مسلم سَمْحٌ حريص على عقيدته بدل التشهير به، لعلك تقنعه إن كان مخطئاً، أو يقنعك، أو تدعو له بالهداية من الله وحده ما دمت على يقين أنه ضال، وهذا أقصى ما يمكن أن تفعله، لأن الله تعالى خاطب نبيه قائلا: إنك لا تهدي من أحببت لكن الله يهدي من يشاء؟ ألم تفكر أن هذا الشاب الذي تعرض لما تعرض له من إرهاب داعش في مدينته قد انفعل وقرر الكتابة والبحث في التاريخ لعله يعرف من أين تسرب الإرهاب والعنف إلى دين الرحمة والتسامح الذي تحيته (سلام ورحمة) . ألم تفكر في أن هذا الشاب كان من الممكن أن يُذبح جراء ما قلته من على المنبر؟ فأين تذهب من “لا إله إلا الله” التي ينطقها كل يوم في صلاته، يوم القيامة. وألم تفكر في أن الإرهاب الذي يمنعك من زيارة درنة سببه مثل هذه الفتاوى المتسرعة التي ينفعل بها الشباب فيقطعون الرقاب وهم يعتقدون أن بقتلهم للنفس؛ التي حرم الله قتلها، يتقربون إلى الله. تمنيت لو أنك من هذا المنبر هاجمت من يسرقون قوتنا ومن يتلاعبون بمصيرنا ومن يثيرون الفتن في هذا المجتمع الواحد، ومن يشوهون الإسلام بمشاهد الدم التي تنقلها نشرات الأخبار ويتابعها الملايين. تمنيت أن اسمع باسمك في غير هذا السياق الذي يغذي بشكل أو آخر حمى إهدار الدماء التي نحن في غنى عنها. وتمنيت لو أبعدت المنبر عن هذا التحريض وجعلته منبرا للدعوة للخير والرحمة والدعاء بالهداية والتسامح بين الليبيين الذين يقتل منهم الأخ أخاه، كما كان منبر الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ألقى من فوقه أكثر من 500 خطبة جمعة في حياته دون أن يُعرف عنه أنه شهر بشخص أو حرض على قتل نفس رغم أنه محاط بالأعداء من كل الجهات، وحتى عندما علم بالمنافقين حوله رفض السماح أو الإفتاء بقتلهم حتى لا يقال أن محمداً يقتل أصحابه، وهذا هو جوهر الإسلام الذي من المفترض أن يدافع عنه أي شيخ تصدى لمسؤولية وأمانة المنابر الصعبة.
جوهر الإسلام الذي جعل أجدادي وأجدادك، قبل أن تغزونا الأفكار الغريبة، يقاومون الغزو الإيطالي بضمائر مؤمنة دفاعا عن الدين والوطن، وجعل الليبيين ينفرون بالمئات مشياً على الأقدام إلى أرض فلسطين للدفاع عن أخوانهم الفلسطينيين وعن المقدسات الإسلامية دون أن يرفعوا شعارات دينية أو رايات تميزهم أو ينخرطوا تحت تسمية جهادية أو تحزب أو تشيع يفرقهم عن إخوانهم المسلمين.