العربيّة .. لغة أم سلاح؟
أنيس فوزي
أن يتحدّث شخصٌ باللغة العربيّة الفصحى يُعطي انطباعا لدى العامّة أنّهُ شخص خلوقٌ متديّن، بينما من يتحدّث الإنجليزية يُعطي دائمًا انطباعًا أنه قابل للانحلال والانحطاط والبُعد عن الدين.
هذا الأمر بعيد عن الدراسة، لكنه سلوك رصدته بنفسي، من خلال تجارب كثيرة، وتجلّى أمامي هذا الأمر عندما كان أحد مشائخ خلوتي في الكتّاب يتحدّث الإنجليزية، وكان الطلاب دائمًا ينظرون له على أنّه أقلّ من الآخرين رغم أنّه كان أكثرهم حفظًا وضبطًا، وهذا يرجعُ بالطبع إلى أصالة اللغة العربيّة وقداستها لدى العرب، خصوصًا في أوصافها ومجازاتها الصعبة والموسيقيّة وشديدة اللهجة.. وللثقافة الغربية التي تتعارض مع مسلّمات الشرقيّ المسلم في أغلب أفكارها وفلسفتها.
إنّ خطرَ اللغة العربيّة يكمن في أنّها تتحكّم في الأخلاق، وهذا يجعلُ للأخلاقِ وجوهًا متعدّدة. فهيَ تتدخّل في الجنس عندما يوصف الرجل المتخاذل: بمثل النساء! وتوصف المرأة الشجاعة : بمثل الرجل. وتتدخّل في العنصريّة حين يوصف السوادُ بالشرّ والعبوديّة والأقلّ مكانة، وتتدخّل في الطبيعة عندما يوصف الغباء بالحيوان، والجمال بالنبات، والغزل بالفاكهة، وإلخ. وهذا يرجع بالطبع إلى أصوليّة اللغة ومخزونها الشعريّ والقداسيّ والتراثي والأبويّ.
ولعلّ من أخطر أدوات اللغة أنها تؤثّر في صاحب الفعل أكثر ممّا يؤثّر فيه الفعل ذاته. فعندما تقول للعاهرة: يا عاهرة، يكون للقول وقع عظيم في نفسها. وعندما تقول للّذي يكذب: يا كاذب، سيرفض ذلك بشدّة، ليس لأنّهُ يجهل فعلته، أو ينكرها، ولكن وقع اللغة أكبر من كذبته كلّها، والاعتراف به يحمّله مسؤوليّة أخلاقيّة خالدة. فعندما يُشتهر أنّهُ كاذب سيتحوّل في غمضة عين إلى “مسيلمة الكذاب” ويصير هذا اللقب ملازما له حتى مماته، تمامًا كأوصاف الأعور والأعشى والأعمى والصعلوك والمجنون والكريم والرافضيّ والشيعي والداعشي والشاذ والعميل والقوّاد وإلخ. وهي تنتقل بموسيقاها الساحرة
من مجرّد وصفٍ عاديّ إلى جزء رئيسي من الذاكرة، التي تجرّده من إنسانيّته وتحصره في جزءٍ واحدٍ منها، في موقفٍ واحدٍ منها، وفي أغلب الأحيان بسبب تصرف واحد في لحظةٍ واحدة من حياته.
من الصعب التفكير الحر من خلال اللغة العربية في المجتمعات التي تتحدث بها، والسبب يرجع في قداستها التي لا تقبل الشكّ. فكلمة الله “لفظ الجلالة” لا يمكنك إدراجها أو استحضارها أو اسقاطها على أيّ شيءٍ لا يتماشى مع القداسة. بعكس ما تقرأ كتابًا بالإنجليزية يذكر فيها تشبيه “GOD” ، وأيضًا كلمة “نبيّ” لا يمكنك إطلاقها على الفلاسفة كما هي بالضرورة، لأنها تجرّدت من معناها اللغوي ودخلت في معناها القدسيّ، وصارت مثلها مثل “الرسول” التي تحوّلت من كلمة تدل على الوسيط إلى كلمة تدل على المشرّع أو الحاكم، ووغيرها من الكلمات مثل “الصحابة” و”التابعين”، ثمّ تنتقل إلى نبذ مفردة “الكفر” جملةً وتفصيلاً، فلا يقال أحدهم كفر بآلهة قريش، وإنّما يقال أحدهم آمنَ بالإسلام، وفي اللغة تقدّمت كلمة الإيمان على الكفر، رغم أنّهُ لا وجود لإيمان من دون الكفر بمعتقد سابق، ووجهة نظر سابقة، وبهذا الشكل تتحوّل اللغة العربيّة من لغة تواصل بين البشر إلى أداة أخلاقيّة تتحكم في شكل حياتك ونظامها بالكامل، وهي لغة تحتكم إلى النصّ القرآني في كلّ شيء، بل إن قواعدها بُنيَت على النص ذاته. إضافة إلى ارتباطها الوثيق بالشعر والأمثلة الحكيمة، وتستحضر أبيات الشعر في كلّ المواقف، مما يبقيها حبيسة الماضي، مثلما أُبقيَت الآرامية والفينيقية والسيريانية والعبرية التي ارتبطت برسالات سماوية دينية أخلاقيّة ولم تعد تحتمل التحدّي، بسبب تجميدها وإبقائها في خانة القداسة.
إنّ اللغة في نظري من أكبر العوائق أمام تقدّم مستوى الإدراك لدى الإنسانية عموما. رغم أنها كانت في الماضي سببا في تنمية هذا الإدراك. والحديث عن دور اللغة طويل جدا، وهناك متخصصون قطعوا أشواطا كثيرة من أجل تعريفها وتحديد دورها. لكنهم في النهاية يعرفون أنهم ينقدونها من خلالها، وأنها تحبسهم حتى عندما يكتبون أنها تحبسهم، وأنهم يقبلونها حتى عندما يقولون أنهم يرفضونها. الأمر شائك ومعقّد للغاية، ولدى المتحدثين باللغة العربية هو أكثر تعقيدا حتمًا. فاللغة هي الوسيلة التي تحلم بها، والحلم العربيّ هو حلم قوميّ وليس إنسانيًا، والطفل العربي هو المقاتل والخطيب والشيخ وليس الفيلسوف والفلكيّ والقبطان، والمرأة العربية هي الأم والأخت والزوجة والإبنة وليست الحبيبة والعشيقة والعاملة والإنسانة المستقلّة، والرجل العربي هو الّذي لا يبكي ولا ينحني ولا يتخاذل ولا يجبن وليس الذي ينكسر ويكتئب ويخاف ويجبُن، وربما إذا تعلّم العربيّ لغةً أخرى واستطاع أن يحلم بها لن يتغير شيء معه، إلاّ من ناحية ارتباط أدوات العصر بلغته الجديدة، أي أن مداركه ستُقابل بأفكار أكثر جاهزية وأوصاف أكثر قابلية للتحقيق، وفي بيئة تفهم الحلم وتقدّره وقادرة على نهضته.
إن اللغة أيضًا مرتبطة بالأنساب، فثلّة يحترمها الناس لأنها من سلالة النبي، ومن سلالة الصحابي، ومن سلالة بني هلال وبني سليم وغيرها، ثمّ تتطوّر هذه المسألة في داخل المجتمعات، فابن الشيخ شيخ، وابن الدكتور دكتور، وابن المهندس مهندس كذلك، ويُقابل بسبب نسبهِ بطريقةٍ أكثر احترامًا من ابن النجار والخباز والبوّاب، هذا لأن اللقب عامل مهم في صناعة الذهن العربي، والأمثلة وحرف “ك” وكلمة “مثل” هي أكثر استخداما من الأوصاف المباشرة أو الأسماء المباشرة حتى. واللغة العربيّة خلّدت ولازالت تخلّد ملايين الأشخاص بأوصافٍ كلّها أخلاقيّة بالنسبة للعرب فقط، ولا علاقة لها بالعلم أو الإنتاج أو الأثر أو البصمة. لذلك تمتلئ الكتب العربيّة بالبطولات لا بالأبحاث، وبالخطابات لا بالأعمال، والأمثلة لا بالدلائل، وهي شحيحة جدا في مجال الخيال العلمي والرقمي، وغنيّة جدا في مجال الخطابة والبلاغة. وهيَ أيضًا ترفع شأن الشجاع أكثر مما ترفع شأن المثقّف، وشأن الرئيس أكثر من شأن المرؤوس، وشأن القويّ أكثر من شأن الحكيم، وهي جعلت حتى اليوم في ذهن مجتمعي على الأقل لفظة -الصوفية- مرتبطة بالخدع والهبل والسحر والدروشة، وصار من يلقّب بالصوفي على المنبر كأنّما يقال كافر، وكأنما يقال داعر. كما تتدخّل اللغة في شعور الإنسان الخاص، سواءً بالمدح أو القذف والذم.
إنّ اللغة العربيّة جميلة جدا، إنها لغتي التي أحبها، والتي أريد أن أحلم بها طوال حياتي، وأن يحلم بها أبنائي وأحبابي، ولأنها برّاقة وأكثر لمعانا هي فتّاكة مثلها مثل الأفاعي والعقارب، قد تكون جميلة القراءة والنظر والسمع لكنها لاسعة في الاستخدام والنقاش والحوار وقد تقضي عليك تماما بضربة واحدة، مرّةً واحدة، وللأبد. ويمكن القول أنها ترفع وتنصب وتكسر الأمّة العربيّة على هواها، ولا أحد بإمكانه إيقاف جنونها.