العدل برهان، ولكن ليس في كل مكان
فاولي رِى
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
تصور هذا السيناريو: صيادان مأجوران خرجا إلى البحر عند مطلع الفجر، وقضيا الساعات العشر التالية يسحبان شبكتيهما بما حوتا. وعندما يعودان إلى الرصيف متعبين ليحصيا صيدهما يُتبين أن أحدهما اصطاد ثلاثة أضعاف ما اصطاده الآخر. فكيف يتوجب تعويض الاثنين عما قضياه في عملهما الطويل ذلك اليوم.
الكثيرون لا يعتبرون هذا محل تفكير. ثلاثة أضعاف من السمك = ثلاثة أضعاف مقابل مالي. ببساطة. المكافأة ترتكز على الجدارة [الاستحقاق]. وهذا ما يسمى في هذه الحالة الصيد الناجح. في الرطانة الأكاديمية “عدالة التوزيع المرتكز على الاستحقاق”.
ثمة بديل واحد- هو توزيع الغنيمة على نحو متساوٍ. فبعد كل شيء أنفق كلا الصيادين عشر ساعات عمل تحت الشمس الساخنة وعادا بسمك سيطعم مجتمعهما، وكلاهما في حاجة إلى النقود. لذا قد يكون هذا عدلا، مساواة أكثر.
البينة الداعمة لدفع المقابل المالي على أساس الاستحقاق أثقل وزنا. فالبشر متميزون بأنهم ينفرون من إعطاء العمال أكثر مما يستحقون، بل والعديدون منهم سيقدمون الأقل من أجل تعويض مساواة العمل. أكثر من ذلك، يظهر هذا الموقف في فترة مبكرة جدا من الطفولة: فالأطفال من عمر الثالثة يعتقدون أن العمل المجهد يستحق مكافأة أكثر. وفي الوقت الذي يلتحقون فيه بالمدرسة يصبحون راشدين صغارا من حيث التزامهم بعدالة التوزيع.
ولكن هل هذا الدافع عالمي؟. ربما لا، تقول عالمة النفس ماري شافر من مؤسسة ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية Evolution Anthropology في ألمانيا. وحسب شافر، لم يسبق لأحد أن نظر إلى الكيفية التي يفكر بها الأطفال الصغار من ثقافات مختلفة إزاء الاستحقاق حين يتقاسمون المكافآت. ثمة سبب للشك في أن الاستحقاقية meritocracy قد تكون مفهوما وقيمة غربيين. لذا فهي وبضعة من زملائها قرروا اختبار ذلك من خلال دراسة سلوك أطفال تتراوح أعمارهم من أربع سنوات إلى إحدى عشرة سنة، من ثلاث ثقافات مختلفة.
بعض الأطفال كانوا ألمانيين ذوي آباء من الضواحي. مجموعة أخرى كانت من منطقة ريفية بعيدة من ناميبيا، من قبيلة متنقلة مشاعية تدعى هيلوم، الذين يجمعون الطعام من الأدغال ونادرا ما يقومون بعمل يتقاضون عليه أجرا. المجموعة الثالثة كانت من سامبورو، من منطقة ريفية بعيدة في كينيا، الذين يعيشون على الماشية، والبستنة وفي بعض الأحيان من عمل يتقاضون عليه أجرا. الأطفال جميعهم كانوا طلبة في مجتمعاتهم.
طلب العلماء من الأطفال الذهاب إلى صيد السمك. اصطادوا سمكتين في كل مرة، في خزانين متجاورين. في هذه الحالة كانت “الأسماك” أجساما معدنية حاول الأطفال الإمساك بها بواسطة سنارة ممغنطة. إلا أن اللعبة أوقفت من قبل العلماء في وقت متقدم: في بعض الحالات سيمسك الطفلان بنفس العدد من الأسماك، بينما في حالات أخرى يمسك طفل واحد بثلاثة أضعاف. وفي ظرف آخر لم يصطد الأطفال شيئا على الإطلاق، ولكنهم أعطوا كميات غير متساوية.
كانت الفكرة اختبار إلى أي مدى يُقَيِّم الأطفال الجدارة. لذا أعطي كل طفل عددا من قوالب الحلوى مساوية لرقم إجمالي الصيد من السمك وطلب منه القيام بتوزيع الحلوى على النحو الذي يرتئيه أو ترتئيه، وبدون وجود راشدين في الغرفة لانتفاء التأثير عليهم. إذا كانوا يقدرون الجدارة [الاستحقاق] فسيوف يوزعون الحلوى وفق حصص الصيد. إذا كانت كميات الصيد متساوية فإنهم سيعاملون الجميع على قدم المساواة. لكن إذا أحدهم اصطاد أكثر من الآخرين بكثير، فستكون المكافآت غير متناسبة. في حالة ما إذا مُنحوا السمك فإن المكافآت ستكون، ببساطة، غير مرتبطة بحجم الصيد لانتفاء بذل المجهود.
الثقافة[الاجتماعية] مهمة. هذا هو الاكتشاف الرئيسي من قبل العديدين في الدراسة مثلما وُصفت في مجلة “علم النفس”. الأطفال الألمان وزعوا الحصيلة بدقة حسب حجم الإنتاجية، مهما كان التفاوت. وعلى العكس، بالكاد راعى أطفال من مجتمعين ريفيين في أفريقيا مسألة الاستحقاق. هذه النتائج تشير إلى أن الفكرة الأساسية للاستحقاق وعدالة التوزيع أبعد ما تكون عن الشمولية [العالمية] في نوعنا الإنساني، وأن العدل تحدده الثقافة الاجتماعية.
ولكن لماذا؟. يقدم العلماء بعض الأفكار حول هذه المسألة. لعل الأمر يتمثل، بالنسبة إلى المجتمعات كثيرة العدد، مثل ألمانيا، في أن “الاستحقاقية” مهمة بالنسبة إلى الصفقات المنتظمة بين أناس لا يعرفون بعضهم وربما لن يدخلوا في علاقات مجددا. هنا يكون التركيز على مساواة التفاعلات المتبادلة، لأن الأشياء لن “تسوى”مستقبلا. وعلى العكس من ذلك، في المجتمعات قليلة العدد تجري التبادلات بين أناس معتادين على بعضهم. وقد يكون الأكثر أهمية في هذه المجتمعات بناء علاقات طويلة المدى مبنية على المساواة بدلا من الإصرار على المساواة في صفقات منفردة. في المجتمعات الرعوية forager societies من مثل الهيلوم، يعتبر التشارك وسيلة مهمة في إحداث المساواة، حيث تجري موازنة التفاوت في الثروة، وتنمي التناغم. لعل الأطفال يستدخلون هذه القيم الاجتماعية في فترة مبكرة ويطبقونها حتى عندما تكون رحلة الصيد متخيلة.