الصين وأميركا… الحرب بلغة الإشارة
عبد الرحمن شلقم
القوي غريمه الأول من يتحرك نحو نقطة تحاذي أو تتجاوز بؤرة قوته. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تنفست الولايات المتحدة الصعداء. لقد غادرت القوة المنافسة حلبة الصراع البارد الذي استمر سنوات بعد الحرب العالمية الثانية. اليابان التي صنعت معجزتها الاقتصادية السحرية كانت في دائرة الحليف الطائع لأميركا وكذلك أوروبا. الصين التي تتقن لغة الهمس الناعم، ألقت بكتاب ماوتسي تونغ في متحف الماضي، وانطلقت خلف دنغ هسياو بنغ، تنحت مسيرتها الطويلة، وهذه المرة ليست العسكرية إنما الاقتصادية. استبدلت بكتاب ماوتسي تونغ الأحمر أفكار الحكيم الواقعي دنغ هسياو بنغ. أكثر من عقد من الزمن ظلت التنمية والتطوير الاقتصادي عبر الصناعة والزراعة والتعليم، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وضبط الانفجار السكاني، بوضع سياسة حازمة في كبح أعداد المواليد، هي الهاجس الوطني للصين.
ظلت أميركا منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن، وباراك أوباما، تراقب اندفاعة الصين الشاملة في تجربة تنموية غير مسبوقة، تلك البلاد التي تمتلك قوة بشرية هائلة نجحت في تحويلها إلى طاقة تدفع إلى الأمام، بدلاً من ثقل يشدها إلى الوراء. ما بين الصين وأميركا أكثر من التجارة وأرقام الصادرات والواردات. هناك قضايا أكبر وأخطر.
تراجع الولايات المتحدة باستمرار خرائطها الاستراتيجية الدولية. الصين الحاضر الدائم على تلك الخرائط. إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وضعت استراتيجية عسكرية، من بين ركائزها منع الصين من القدرة على الدفاع عن مياهها الإقليمية، وطرح الرئيس أوباما خياراً يقضي بعدم البدء في الاستخدام، إلا أنه ووجه بمعارضة قوية من الجمهوريين وكبار قادة القوات الأميركية.
قضية بحر الصين الجنوبي مسَّت أصابع الوجود العسكري الأميركي في جنوب شرقي آسيا، فاليابان حليف كامل لأميركا، بالإضافة إلى دول أخرى تقع في حلقة الصراع مع الصين على بحر الصين الجنوبي، وهي: ماليزيا، وسنغافورة، وإندونيسيا، وفيتنام، والفلبين، وتايوان. بحر الصين يعبره ثلث الشحنات البحرية العالمية، بما يعادل سبعة تريليونات دولار أميركي، أي خمسة عشر ضِعف ما يمر بقناة بنما، وثلاثة أضعاف ما يمر بقناة السويس. ذلك البحر حلقة ثمينة جداً في شبكة التجارة العالمية، والسيطرة عليه تعني التحكم في حلق التجارة البحرية العالمية.
من الناحية العسكرية، للصين حساباتها، وكذلك اليابان التي تختزن شحنة عداوة تاريخية لا تزول مع الصين، ولأميركا حساباتها العسكرية التي تبدأ بتحالفها القوي مع اليابان. فالصراع على الجزر في هذا البحر هو في الأساس بين اليابان والصين، والولايات المتحدة تقف بقوة وراء اليابان، مما يجعل حسابات القوة العسكرية بين الطرفين غير متوازنة. الولايات المتحدة، نشرت قاذفات قنابل نووية بعيدة المدى في أستراليا وغوام، في حين تواصل الصين بناء قواعدها العسكرية على الجزر المتناثرة في بحر الصين. ترى بكين أن أميركا تحاول تطويقها بحزام من الحلفاء، وهو ما يشبه الاستراتيجية التي اتبعتها واشنطن مع الاتحاد السوفياتي، ولكن الصين تدرك جيداً أن لا قدرة لها على مواجهة أميركا عسكرياً، ففي حين تمتلك أميركا عشر حاملات طائرات، لا تمتلك الصين سوى حاملة طائرات واحدة صغيرة، ولا مقارنة بين الترسانة النووية الصينية وتلك الأميركية. بالإضافة إلى ذلك، ترى اليابان حليف أميركا أن قدراتها العسكرية تتفوق على القدرات الصينية. ولكل تلك الاعتبارات في حسابات القوة، فإن من المستبعد أن تغامر الصين بمواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، أو غير مباشرة عبر حرب مع اليابان.
ورغم الصوت الصيني الهادئ والحذر بطبيعته، فقد ارتفعت أصوات إعلامية ورسمية تحذر من مواجهة عسكرية قادمة بين الصين وأميركا. وزير الدفاع الصيني دعا إلى الاستعداد لحرب شعبية طويلة الأمد في بحر الصين الجنوبي.
السؤال: ما العلاقة بين الحرب التجارية الواسعة التي دخل فيها الرئيس ترمب مع الصين، والاستراتيجيات العسكرية الأميركية في بحر الصين؟ للإجابة عن السؤال، علينا أن نتذكر برنامجه الانتخابي الذي عرض فيه بالتفصيل مشروعاته السياسية والاقتصادية المحلية والدولية. ترمب لا يخفي شيئاً مما يدور في عقله، لا يتعامل مع لغة المجاملة أو الدبلوماسية. هاجسه الأكبر هو المال ثم المال ثم المال، عقله آلة حاسبة صماء. باختصار ما يهمه: كم تأخذ أميركا وكم تدفع. كان صريحاً مع مجموعة السبع إلى حد الصدام، وكذلك مع حلفائه في الأطلسي ومع جارته المكسيك. بالنسبة للصين، يرى ترمب أنها تستولي على أموال أميركا عن طريق إغراقها بصادراتها، إلى حد أنه قال إن الصين «تغتصب» أميركا. رفع الرئيس شعار «أميركا أولاً»؛ لكنه لم يحدد الأولوية في ماذا. لا شك أنه يريدها أن تكون الأولى كي تكون أولاً.
الصين هي المنافس الأول لأميركا اقتصادياً؛ بل تفوقت عليها سنة 2014، وترتفع بقوة على سلم التفوق. إذن حرب ترمب مع الصين هي حرب داخل حروب، فما فرضه من رسوم على الواردات من أوروبا وغيرها لا يهز التجارة العالمية بالقدر الذي تفعله إجراءاته مع الصين. إدارة المعركة التجارية مع الصين أكثر تعقيداً من الاحتكاك والاستراتيجيات في بحر الصين الجنوبي، فالعلاقة التجارية بين البلدين مركبة. الصين هي الشريك التجاري الأقوى مع الولايات المتحدة؛ حيث تستورد من الصين أكثر مما تستورده من أي دولة أخرى في العالم، ويصل حجم تلك الواردات أكثر من نصف تريليون دولار، في حين تصدر أميركا للصين ما قيمته مائة وخمسة وثلاثون مليار دولار. قرارات الرئيس الأميركي برفع الرسوم على الواردات الأميركية من الصين، قابلته بكين برد فعل مماثل، وانعكس ذلك على المواطن الأميركي، والمزارع بصفة خاصة، مما اضطر الرئيس إلى تقديم دعم خاص للمزارعين بقيمة اثني عشر مليار دولار.
لكن الولايات المتحدة تعاني من جرح عميق في ذراعها الاقتصادي مع الصين، وهو السندات الأميركية التي تمتلكها الصين، والتي تبلغ تريليوناً وربع تريليون دولار تقريباً، فهي أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة، وتلجأ الصين لشراء السندات الأميركية بكمية كبيرة، للمحافظة على معدل منخفض لسعر عملتها اليوان لدعم منافسة صادراتها، وذلك ما يقلق الرئيس دونالد ترمب. السندات الأميركية في يد الصين سلاح ذو حدين، ففي حال تخلت الصين عن تلك السندات سترتفع قيمة اليوان الصيني، وسيضر ذلك بحجم صادراتها، وفي الوقت نفسه ستكون ضربة قاسية للاقتصاد الأميركي؛ بل والعالمي.
المواجهة التجارية بين أميركا والصين لها طبيعة خاصة تختلف عن كل المواجهات مع الدول الأخرى. حجم التعامل بين البلدين لا مثيل له، وكذلك حجم السندات. ومشكلة بحر الصين الجنوبي ذات البعد الاستراتيجي المعقد لا تغيب عن ملف الأزمة بين البلدين العملاقين؛ لكن الحرب على جبهتيها بين الطرفين ما زالت بلغة الإشارة، فهل ستسهل تلك اللغة الوصول إلى تفاهم؟