الشعوب الموجوعة تنهض من الرماد
سالم العوكلي
منذ فترة خرج الناس إلى الشوارع في بيروت تحت شعار (طلعت ريحتكون) عندما تكدست القمامة في شوارع أجمل المدن، ووسط سلطات قائمة ولها مكاتبها وميزانياتها وقصورها وجولاتها في شوارع وفنادق العالم النظيفة، ولكن كل تظاهر في البلد العربي الوحيد، المسموح فيه بحق التظاهر والتعبير، كانت تركبه الأحزاب والطوائف والكتل السياسية المتصارعة، وكل حراك كان يجهضه سؤال (من خلفه؟) وما أكثر الإجابات وتعقيدها لهذا السؤال الذي ما فتئ يطارد الغضب الشعبي اللبناني من إفرازات الديمقراطية الوراثية ، أو ديمقراطية الإقطاع العائلي، التي منذ وعيت ما يحدث في هذا العالم وأنا اسمع بالأسماء نفسها والعائلات نفسها تتصدر مشهدها السياسي في لبنان.
اختفت أسماء ووجوه تقلدت المناصب الرفيعة في أقوى الدول في أوروبا وأمريكيا من المشهد، وما عادت تُذكر سوى في أرشيف السياسة، لكن الوجوه اللبنانية تتبادل الأدوار ولا تختفي منذ عقود وكأن لبنان الحضارة إقطاعية تتقاسمها، بينما الكفاءات والشبان يهاجرون إلى بقاع العالم، ويسهمون في بناء وسياسة تلك الدول التي نزحوا إليها، لتصبح الجالية اللبنانية أهم الجاليات حيثما استقرت.
منذ فترة اشتعل أكثر من 100 حريق في غابات جبال لبنان وعجزت الدولة عن مكافحة هذه الحرائق لولا أن تدخلت السماء بأمطارها لتطفئها، لكن الدخان الناتج عنها تحول إلى احتقان يتراكم داخل صدور اللبنانيين وهو يرون ساستهم عاجزين عن حماية الوطن من زحف النار والقمامة ، يسجلون النقاط في ملاعب بعضهم البعض في صراع فوقي لا ينتهي، غير منتبهين لإمكانية أن تتحول التظاهرات المؤقتة التي سرعان ما يتاجر بها الساسة إلى ثورة تُضاف إلى سلسلة الثورات العربية التي لا ترضى بما دون سقوط النظام برمته.
كانت القشة التي قصمت ظهر الشارع هي الضريبة التي فرضت على تطبيق الواتس أب للاتصالات، في بلد ضاق بناسه وتشتتت فيه العائلات في أنحاء العالم وما عاد يمكنه التواصل إلا عبر هذه التقنية التي أتاحتها الثورة الرقمية لشعوب بعثرتها الحروب والفقر والنزوح فأصبحت مواقع التواصل وطنها البديل.
في إحدى حلقات برنامج (ضيف ومسيرة)، بقناة فرانس 24، تحدث الرئيس اللبناني السابق، ميشيل سليمان، عن معجزة تماسك الدولة اللبنانية رغم أن الجميع كان يتوقع أن الهزة التي حدثت في سوريا ستتبعها هزات ارتدادية قوية في لبنان، ويحيل هذا التماسك اللبناني إلى دور الجيش، مشيرا إلى أن الناس هم من أخذوا العبرة من الحرب الأهلية السابقة بعكس الساسة الذين لم يأخذوا العبرة. بمعنى أن الشارع استطاع أن يتغلب على أهواء الساسة التي كادت أن تعصف بوحدة لبنان وترمي به في أتون حرب أهلية أخرى، وما لفت نظري في هذا الحوار إشاراته المتتابعة للجيش اللبناني الذي استطاع، رغم قلة إمكانياته، أن يحافظ على أمن ووحدة لبنان، وأن يحارب الإرهاب في الوقت نفسه ويحد من انتشاره .
كان هذا الحوار منذ عامين تقريبا، غير أن الهزة الارتدادية وصلت إلى لبنان أخيرا، ليس بالضرورة من اثر الزلزال السوري، ولكن بتلك النسخ المعدلة من الربيع العربي التي استفادت من أخطاء مواسمه الأولى ، خصوصا تجربتا السودان والجزائر، وهي تجارب تعاضدت فيها الشعوب مع جيوشها كي تزيح كوابيس الأنظمة المطبقة منذ عقود، وتشن حربها على تماسيح الفساد وتودعهم السجون.
لبنان عريقة في الحريات وفي التداول السلمي للسلطة، وكانت حلم أي طموح عربي نحو الإصلاح السياسي، وملاذ كل عربي يضيق به وطنه، لكن دستورها المفخخ بألغام الطائفية كان دائما يهدد هذه الديمقراطية ويهدد السلم الاجتماعي، إضافة إلى التدخلات الخارجية من الدول المجاورة التي كانت تصدر أزماتها لهذه الواحة الصغيرة العاشقة للحياة والمرح وسط الصحارى العربية ، فضلا عن الأحزاب ذات الأذرع المسلحة التي تتناقض مع جوهر الديمقراطية الحزبية، ما جعل في النهاية ديمقراطية المحاصصة تخسف بالاقتصاد اللبناني وتنشر الفساد أفقيا وعاموديا. ومع الفساد لا يمكن التفكير في مسار ديمقراطي ناجح، وبدون دستور علماني يساوي بين أفراد المجتمع كمواطنين بغض النظر عن طوائفهم يصعب أيضا التفكير في ترسيخ قواعد الديمقراطية التي عامودها الفقري المواطنة بمفهومها العلماني .
من هذا المنطلق كانت المظاهرات الأخيرة في مدن وأرياف مختلفة من لبنان تتجاوز هذه البنية الموتورة للدولة، وتتجاوز الطوائف والأهواء السياسية المسيطرة منذ عقود طويلة، وتطالب للمرة الأولى بإسقاط بنية النظام السياسية بالكامل، مستخدمة هتاف الربيع العربي الأول الذي انبثق في شوارع تونس “الشعب يريد إسقاط النظام” والهتاف اللبناني الأثير “حلوا عنا بدنا نعيش”.
الربيع العربي لم يذبل لكنه يغير ألوانه ويتنقل من مكان إلى مكان، وكل من يعتقدون أنه ذبل أو تراجع أو توقف، أو من سرقوا أهدافه، أو انحرفوا بمطالبه، أو انتكسوا به، عليهم أن يدركوا أن المارد خرج من القمقم، وأن الشارع العربي استيقظ وأدرك مدى قوته حين يحتشد في الميادين،
وأنه لا عاصم لهم من هذا الطوفان إلا بالانحناء أمام الشعوب التي كسرت حاجز الخوف.
تتكرر عبارة (الشعب الموجوع) في الشارع اللبناني وذكرني هذا الوصف المؤثر بقصيدة عاصي الرحباني التي غناها ملحم بركات في ليبيا في زمن كان الرحباني يتنقل بين شعوب المنطقة من وجع إلى وجع، ورأى الوجع الليبي عن كثب فقال: لبنان يا ليبيا والحزن يوجعه … مازال كل مساء يطلع القمر. والشعب الليبي أيضا الذي اسقط النظام مازال موجوعا من تَرِكَتِه التي تتحكم في المشهد حتى الآن لكنها لن تكون أبدا أقوى من ذاك النظام الذي سقط في مزبلة التاريخ.
ربيعنا في ليبيا يترنح، لكنه لن يسقط، وستُصدّر لنا هذه الثورات الجديدة نسخة معدلة من ربيعنا كي نُسقط بها كل هذه الطبقة السياسية وكل هذا الفساد الذي انحرف بمسار أحلامنا.