الشعبوية فوق حلبة العولمة
عبد الرحمن شلقم
إمبراطورية الدنيا. لا حدود بين الدول كما عرفت منذ قرون. حدود تلاشت وحلّت مكانها خطوط أخرى. فجاج الوجود امتدت رحابها إلى ما لا نهاية.
(العولمة)، الكلمة الترميز لكون جديد، انساب فيه مزاج آخر، وثقافة أخرى بل وإنسان آخر. انبرى كثيرون لمهاجمة هذا الكائن الجديد ومواليده التي لا تُعد، بدءا من القول: إنه (مؤامرة) للقضاء على الهويات الوطنية، إلى نعته بوصفه أنه جديد للهيمنة. لكنني أرى أنه ابن الإنسان وإنجازاته المتواصلة. البشرية كلها بما أبدعت من فكر واختراع ساهمت في زرع بدوره وحصد سنابله. منذ اختراع التليفون والطيران لاحت تباشير العولمة. اختزال المسافات باستماع الإنسان للإنسان عن بعد، واختزال المسافات بتسريع الحركة والتنقل أصبح العالم عالما آخر.
مع السينما والتلفزيون وزيادة نسبة المتعلمين وتراجع الأمية، دخل البشر إلى دنيا جديدة وتسارعت خطوات الحركة نحو التجدد والتمدد والاندماج. الإنترنت، جعل الكون غير الكون، والفضائيات مزجت الرؤوس والنفوس.
العولمة، لا أب لها ولا أم، ولا يمتلك أحد، شخصا كان أو أمة شهادة عقارية أو صك ملكية لها. مع ثورة الاتصالات الحديثة لم يعد العالم كما قيل في الماضي (قرية صغيرة) بل أصبح غرفة صغيرة. زالت الحدود البرية والجوية بين الناس وإن بقيت بين الدول. الرياضة وخاصة كرة القدم خلقت نمطا جديدا من الولاءات، مشجعون من أقصى آسيا لنوادٍ في أقصى أميركا اللاتينية، أما الأندية الأوروبية، فهي معبودة الشباب في كل أصقاع الأرض، الفن الجديد جعل ملايين الشباب من مختلف القارات يتعلقون بفنان أو فنانة من بلاد لا يعرفون عنها شيئا سواه أو سواها. الخبرات العلمية من كل أنحاء الدنيا تباع في سوق العقول. لم يستغرب أحد عندما عين مواطن كندي محافظا للبنك المركزي البريطاني، أو عندما اختارت دولة ناميبيا خبيرا ماليا من ماليزيا ليكون محافظا لبنكها المركزي. لم يقل أحد من حزب المحافظين (المحافظ جدا) قديما، إن ذلك تطاول على السيادة أو الهوية البريطانية، ولم يكن هناك اعتراض على المحافظ الماليزي لبنك ناميبيا.
رياح العولمة ألقت بالآيديولوجيا العابرة للحدود إلى حفر الماضي. الاتحاد السوفياتي الذي عبرت قوته حدود روسيا وضم عددا من جمهوريات أخرى، ومد جناح فكره وقوته على أوروبا الشرقية رحل إلى غياهب الماضي.
تداعى ما كان يطلق عليه ـ الستار الحديدي ـ وتعولم الوجود.
العولمة لا تطغى على الهويات الوطنية ولا تلغيها بل تروضها، وتضيف لها وتغنيها. تجربة الحياة عبر التاريخ تقول، ما اتصل كائن بكائن إلا وأخذ منه وأعطاه.
الهوية، لا يوجد مقاس نمطي لها ينطبق على كل الشعوب. لكل شعب هويته التي خاطها له تاريخه وجغرافيته. مثل ما لكل فرد طباعه ومزاجه ومؤهلاته كذلك هي الشعوب.
أبدع الأستاذ الدكتور جمال حمدان في مجلداته عن (شخصية مصر) عندما استل من جيولوجيا الزمان وطبوغرافيا المكان وكيمياء الحياة تضاريس الشخصية المصرية، وكذلك فعل الأستاذ الدكتور علي الوردي في استنطاق التاريخ والطواف فوق منحنيات الجغرافيا ليقرأ الإنسان العراقي من الداخل.
الشعوب النهرية تمتاز بمزاج الاستقرار، في حين تميل الشعوب الصحراوية إلى الترحال. أهل المدن لهم نمط مشترك في التعامل فيما بينهم ومع الآخر. كل ذلك يرسم خط الأخذ من الآخر والعطاء له. الشعوب المركبة التي تتعدد فيها الأعراق غير تلك البسيطة المكونة من عرق واحد. أميركا أمة معولمة أساسا، أوروبا بعد اتحادها وتوحيد عملتها وفتح الحدود بين دولها، ومنح حرية الإقامة والتنقل والعمل والملكية لمواطني الدول الأعضاء تجسدت فيها كل تقاسيم العولمة.
في مطلع هذا العقد، برزت ظاهرة منح لها مصطلح (الشعبوية). لكن هذه الظاهرة لها أكثر من لون. لكل بلاد شعبويتها. نستطيع القول، لها مشترك واحد وهو عودة (رجال الشرفات)، هم القادة السياسيون الذين يخاطبون الجماهير بلغة تعبوية صوتها مرتفع ساخن. يتمحور حول الوطن وتقديم مصالحه، والانحياز للمواطن الذي يعتبرونه مهمشا. الشرفات هي المكان الذي اعتاد الزعماء الشعبويون عبر التاريخ أن يقفوا فيها، ويطلقون صرخاتهم مباشرة إلى الجموع المحتشدة أمامهم في الساحات الواسعة. يتحدثون لساعات. مثل الرئيس الكوبي الراحل فيدل كاسترو الظاهرة الأبرز، ومن بعده شافيز رئيس فنزويلا الراحل وخليفته مادورو، وايفو موراليس رئيس بوليفيا. أميركا اللاتينية هي الصوت الشعبوي الزعامي الأبرز في العصر الحديث.
الشرفات تتنوع من بلد إلى آخر ومن زعيم إلى آخر. لكن للعولمة وتقنيتها حضورها بقوة. الرئيس الأميركي دونالد ترمب، اختار شرفة (تويتر) بعد فوزه. تنقل أثناء المناظرات الانتخابية بين القنوات التلفزيونية، سلاح اللغة الشعبوية كان حصانه الذي سابق وسبق به غرماءه في فرز المرشحين من الحزب الجمهوري، ومع غريمته الأخيرة هيلاري كلينتون. شعبوية السقف العالي، تكديس المشاعر في صندوق الغرائز الوطنية الحديدي. بعد وصوله إلى البيت الأبيض اختار شرفة تقنية هي تويتر، خاصم وسائل الإعلام ضمن حزمة الشعبوية بأدوات العولمة. في إيطاليا التي عاشت عقودا من السيولة السياسية وتساقط الحكومات المتتالية، والإضرابات وهيمنة النقابات على المشهد السياسي العام وهي امتدادات للأحزاب وخاصة اليسارية. بعد ثورة ما عرف (بالأيدي النظيفة) التي قادها أحد القضاة وأدت إلى تهاوي الحزبين الأكبرين، الديمقراطي المسيحي والشيوعي، قفزت وجوه جديدة إلى المسرح السياسي وفي مقدمتهم رجل الأعمال سيلفيو بيرلسكوني، دخل بخطاب – شعبوي – عبر قنوات مرئية يمتلكها. الضربة الغريبة وغير المسبوقة هي بروز الممثل الكوميدي (قريللو)، زعيما لحركة سياسية هي حزب الخمس نجوم. خطاب سياسي شعبوي يسخر من الأقطاب السياسية في البلاد. اليوم هو الحزب الثاني في إيطاليا.
موجة من الشعبوية الناعمة سرت في النمسا وفرنسا وهولندا وبعض دول أوروبا الشرقية. الشعبوية لها شحنة يمينية وطنية. الشوفينية هي تعبير عن درجة من التعصب الوطني، لكنها في تجلياتها اليوم تخلو من العنف الرسمي المسلح مثل ما كان في القرن الماضي.
الشعبوية عرض من الأعراض التي لاحت على جسد العولمة، يمكن أن نعتبرها ظاهرة وطنية للتنفيس الناعم عن الاحتجاج على مواليد العولمة، من خلال مسار ديمقراطي غير عنيف.
الإرهاب، له منابعه، التعصب الوطني والديني والآيديولوجي هي الأنهار الأكبر. العولمة محيط إنساني بلا حدود، من أعظم لؤلئه (تيار الشعبوية) أي الاحتجاج الزعامي العنيف بلغة المسالم، وعبر المسارات الديمقراطية.