السينما والأدب: لماذا الفن السابع مُحسن للنصوص الروائية؟
الصراع بين مُحبي الأدب ومُحبي السينما؛ أبدي ومستمر وربما لن يرى أحد له نهاية فعلًا. لكن من الناحية الأخرى، يجب على المرء أن يسأل نفسه: “لماذا يحدث كل هذا من الأساس؟ أليست كلها فنون؟ ألا يجب أن نستمتع بها فحسب؟”.
من الخارج، أجل الوضع يبدو هكذا. لكن من الداخل، توجد بعض الاختلافات التي تجعل رحا الحرب دائرة بين الفريقين على مدار التاريخ المعاصر. قبل ظهور السينما، كانت الساحة خالية للأدب ليكون هو الوسيلة الوحيدة التي تدفع الشخص لإعمال ذهنه بهدف تخيل كل شيء وأي شيء، لكن يبقى محدودًا بالإمكانيات الجزء التخيلي والتصوري من الدماغ؛ والذي يختلف من قارئ لآخر. لذلك لا يمكن تعميم التجربة البصرية أبدًا.
وهنا تأتي السينما لتكون التجسيد البصري المباشر الذي لا يحتمل إلا خيارًا واحدًا فقط: ما يُعرض على الشاشة. مع الوقت استطاع السينما أن تفرض نفسها على الساحة، وتجعل الأدب في موقع قوة تارة (حيث كانت أدنى منه) وفي موقع ضعف تارة أخرى(حيث كانت أقوى منه).
لذلك؛ ما هي العوامل التي جعلت السينما بالنسبة للبعض عبارة عن كتاب مقروء؟ أو تجربة مُحسنة للأدب ككل؟
تقديم صورة بصرية موحدة
دائمًا وأبدًا هناك نقّاد لكل أنواع الفنون حصرًا. والناقد هو الذي يرى العمل الفني بطريقة ما، فبالتالي يقدم رأيًا إما أن يُعزز من العمل الموجود، أو يعمل على إظهار مواطن الضعف فيه؛ بغرض تحسينه. لكن الناقد في النهاية مجرد شخص عمل على معالجة الصورة النهائية من العمل الفني بطريقته هو، ولم يعمل على تخيل العمل الفني بطريقته هو؛ والفرق فعلًا كبير للغاية.
في الأدب، القارئ يتخيل كل شيء من الألف إلى الياء. ومهما كان وصف الكاتب متقنًا للغاية، غالبًا ما تكون الهيئة البصرية للشخوص والأماكن، مختلفة تمامًا بين أذهان القرّاء. إذا كانت الشخصية مرتدية معطفًا باللون الأصفر، ونسي الكاتب ذكر اكسسوارات ذلك المعطف، قد تكون الشخصية لدى القارئ (أ) مرتدية نيشان حرب على المعطف، أو رابطة إياه من الجانبين بحزام ثقيل من الجلد المصقول والمدبوغ بعناية شديدة. احتمالات خلق مليون شخصية من شخصية أدبية واحدة؛ ليست احتمالات بعيدة التحقيق على الإطلاق.
لكن في السينما الأمر مختلف تمامًا، حيث إنها تقدم للمُشاهد هيئة واحدة للشخصية الواحدة، والتي تمثل نظرة المؤلف ومصمم الشخصيات ومصمم الملابس؛ وكذلك المخرج. المُشاهد لا يرى إلا تلك الصورة، وهو مُجبر تمام الإجبار؛ على تقبلها كما هي، دون محاولة تخيل أي شيء آخر بخصوصها. ولذلك يتم التركيز هنا على مردود تلك الهيئة على المُشاهد، بدلًا من إشغال عقله بتخيل كل شيء وأي شيء أمامه؛ كما يفعل الأدب.
هذا يكون في صالح الأفلام جدًا، وقتها سيكتب المشاهد مراجعة تنطوي على (انطباع فني) عن الفيلم، وبذلك يتجنب صنّاع الفيلم الآراء التعديلية على الشكل البصري لعالم القصة. على عكس الأدب الذي يُنتقد فيه الكاتب (كثيرًا) على فقره في إيصال الفكرة؛ عن طريق الاختزال في وصف الأماكن والشخصيات.
فرصة لعيش التجربة مرة أخرى
عند قراءة أي عمل أدبي، يحصل الإنسان على أول تجربة نفسية وعقلية معه، ولا تتكرر مرة أخرى إلا إذا أصدر الكاتب عملًا آخر، أو أعاد صياغة الأول في طبعة منقحة ومعدلة. لكن هذا للأسف لا يحدث كثيرًا، ويكتفي أغلب الكتاب بجعل العمل فرديًّا، والاستمرار في حياتهم الفنية بأعمال أخرى، دون العودة مجددًا إلى حجر الزاوية خاصتهم في الماضي.
ولذلك تكون تجربة الأدب الأولى؛ هي الأخيرة. كوكبة الخبرات والتخيلات والمشاعر التي عايشها القارئ مع العمل الفني، ستظل كما هي مع كل قراءة جديدة لنفس العمل. أجل يمكن الانتباه إلى بعض الصغائر في النصّ مع كل مرة جديدة في القراءة، لكن بنسبة كبيرة تظل التجربة متكررة.
ومن الناحية الأخرى، نجد أن السينما توفر للقارئ تلك التجربة الثانية التي كان يطمح للحصول عليها بأي شكل من الأشكال. وتلك التجربة تتمثل في رؤية صانع الفيلم للقصة، أي رؤية شخص آخر لنفس العمل الأدبي. فبدلًا من محاولة الوصف عن طريق المراجعات والنقاشات في الصالونات الأدبية، ينتقل كل شيء إلى الشاشة الكبيرة، لنحصل على فيلم سينمائي مكتمل العناصر التفاعلية؛ ممثلًا الرؤية المختلفة لنفس النصّ المغلف بالجمود.
ذكرنا منذ قليل أن الشخصية الواحدة تحتمل مليون هيئة وهيئة، السينما وفرت على القارئ عناء البحث عن هيئات الآخرين الذين في الغالب لن يستطيعوا إيصال أوصافهم بصياغة أدبية؛ وقدمت له وجبة دسمة من الديكور، التمثيل، الموسيقى، وعشرات العناصر المتلاحمة لصناعة فيلم يجعل القارئ في حيرة من أمرة، قائلًا: “الفيلم مختلف تمامًا عن الرواية!”.
هذا الأمر عاصره جميع قرّاء سلسلة (هاري بوتر) الأشهر من نار على علم في تصنيف أدب الفانتازيا. أصدرت الكاتبة سبع روايات بالتمام والكمال، وأخذت في سرد أجزاء دسمة للغاية بداية من الجزء الرابع وحتى الأخير. وبالرغم من أن النصّ يحتوي على عشرات الأشياء التي لم تستطع الأفلام الثمانية تقديمها للجمهور، إلا أن التجربة نفسها كانت مختلفة تمامًا.
ظهور هاري على الحقيقة كان رائعًا، ورؤية هايغرد بلحيته الكثيفة كانت خير هيئة، وكذلك دمبلدور الأثير، وغيرهم من الشخصيات التي صُبغت في أذهان الجمهور بهيئة معينة، وعايشوها لاحقًا بهيئة مختلفة في الأفلام.
وبالنسبة لمن شاهدوا الأفلام وقرأوا الروايات، إذا عادوا مرة أخرى للقراءة، فسيتركون التخيل القديم تمامًا، وستعلق بأذهانهم الصور السينمائية للشخصيات الأدبية. وذلك بالتبعية يشجعهم على مشاهدة الأفلام من جديد.
ولهذا تُعتبر سلسلة أفلام هاري بوتر هي واحدة من أعلى السلاسل بالنسبة لمحور إعادة المشاهدة مرارًا وتكرارًا، ليس بسبب روعة الأفلام فحسب؛ بل أيضًا لاقترانها الوثيق مع عمل أدبي عملت على تحسين صورته البصرية في أذهان القرّاء.
تقديم حبكة جديدة
بالرغم من صنع أفلام كثيرة بناء على روايات أدبية عملاقة في المجال، إلا أن هناك بعض الأفلام التي لم تقتبس من المصدر إلا بعض الخطوط العريبة، بينما عمل كاتب السيناريو على إعادة صياغة كل شيء. هذا الفعل قادر على صنع الرواية التي كان ينتظرها القرّاء، لكن الكاتب كان كسولًا لدرجة أنه ترك الأمر في عهدة السيناريت ليصيغ هو القصة الجديدة، ويقدمها في شاشات السينما بدلًا من صفحات الكتب.
بالطبع مسلسل Game of Thrones هو واحد من أشهر أعمال التلفاز حصرًا بالفترة الأخيرة، ويرقى في أسلوب كتابته وإخراجه إلى الأفلام السينمائية. أتى الموسم الثامن منه دون إتمام الكاتب الأصلي لروايته، التي في الأساس تطرح أحداث هذا الموسم. أي أنه تمت كتابة السيناريو بناء على تعليمات مباشرة من جورج مارتن.
هكذا إذا شاهد أحدهم نهاية المسلسل، ثم قرأ نهاية مارتن الأصلية، سيجد اختلافًا لا يمكن غض الطرف عنه؛ وكأن عالم القصة وصل إلى مفترق طرق، وبناء عليه تم خلق عالمين موازيين لبعضهما البعض، كروايتين منفصلتين تمامًا.
هذا الأمر قد يجده البعض مجرد تشويه للعمل الأصلي، لكن قد يجده البعض الآخر على أنه فعلًا إثراء مباشر وصريح لعالم القصة الغني بالتفاصيل والتي لا تكفيه سلسلة روايات فحسب لإشباع فضول القارئ منه؛ وأنه لا بأس من تفاصيل أخرى تجعل التجربة الانغماسية أطول وأقوى على كل حال.
في النهاية، إذا كنت من مُحبي الأدب أو السينما، لا يمكن إنكار فضل الفن السابع على تحسين الروايات الأدبية، أو على أقل تقدير تقديم صورة مختلفة عنها؛ للجمهور الذي اعتاد ما تم طرحه في الكتب لسنين خلف سنين؛ دون تجديد.