السياسة بين العقل والقلب
عبد الرحمن شلقم
أينما ذهبت، خذ قلبك معك.
ابن جبير
من لا يكون اشتراكياً في العشرين من العمر لا قلب له، ومن لا يتراجع عن ذلك وهو في الأربعين فلا عقل له. قول ينسب إلى أكثر من قائل. كل مسرب وزمن في الحياة، له جحا تنسب له أقوال يرشها عقل الزمان على قوافل السائرين في فجاج الحياة. (العقل الصلب)، الذي مثله كبار الفلاسفة عبر التاريخ وقدم الأفكار التي رسمت خطوط الانعطاف في الحياة البشرية، لم يصب إنتاجه في رؤوس العامة من البشر. من أفلاطون وأرسطو إلى جان جاك روسو وكارل ماركس إلى فوكو. مرَّ العالم بحقب من الفلسفات والأفكار التي ساهمت في تكوين فكر إنساني متجدد. من عصور النهضة والتنوير والحداثة، إلى كون العولمة. تدفقت أفكار كانت الحادي العقلي للإنسان في رحلة خلق وإبداع لا تتوقف. النخب أو قادة الرأي العام هم المترجم الدائم الذي يقوم بتحويل الأفكار الكثيفة الصلبة إلى مادة قابلة للفهم وتفعيلها على مساحات الحياة.
الأفكار، مبنى شاهق من الإبداع البشري، لبناته من إنتاج عقل الإنسان على مر التاريخ، تساهم في مرافقة الطموح الإنساني نحو الرقي والتطور وإخضاع قوى الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان.
بعد اختراع تقنية الطباعة، اتسع فضاء التواصل بين المفكر وعامة الناس. آلة التنوير والتطوير أصبحت قوة الفتح الإنساني الجديد. غمرت الكتب الفكرية والفلسفية كل مكان، تباع في أسواق الخضار وينادي بها باعة المواد القديمة وهم يتجولون في الشوارع والأزقة. كانت تلك الظاهرة غير المسبوقة في التاريخ، بداية ولادة الإنسان الجديد في أوروبا.
فترة (الحمل) استغرقت قروناً ثلاثة. من الخامس عشر إلى الثامن عشر الذي ولد فيه المولود الجديد.
ثلاثة قادمون، صنعوا العالم الجديد. الطباعة، الفكر التنويري، الثورة الصناعية. هذا الثلاثي صارت له مواليد كثر، أخطرها حروب نابليون الأوروبية بعد الثورة الفرنسية. أراد نابليون أن يوحد أوروبا في إمبراطورية كبرى بقيادة فرنسا، انكسرت حملته وانهزم، لكنه حقق نصراً مهماً لم يكن من بين أهداف حملته وهو القضاء على الإقطاع في أوروبا. كان ذلك من مكر التاريخ. كل خطوة يخطوها الإنسان علمياً وصناعياً هي نتاج أفكار تلد أفكاراً جديدة. الثورة الصناعية خلقت حاجة للمواد الأولية. بريطانيا مهد تلك الثورة، وصار الاستعمار الأب الضرورة.
عاد العقل البشري من خلال مفكريه يشعل أضواء جديدة. في مواجهة ظاهرة الاستعمار، والاستغلال للعمال الذين استعملوا كآلة بشرية رخيصة لا قيمة لها. فكان كارل ماركس وكتابه رأس المال. وتكونت أحزاب تعتقد في ما قال.
الفيلسوف والمفكر، لهما لغة خاصة كثيفة بل صلبة أحياناً، قلما يجد العامة مدخلاً إلى أدغالها. لكن الوسيط بين الطرفين هو (المفسر) الذي سماه قرامشي – المثقف العضوي – الذي يوظف وضعه الطبقي والاجتماعي لتحريك القدرات الخالقة للوعي بين صفوف من هو وسطهم.
(القلب)، هو أول المعبرين عن مشاعر البشر من لغة الإشارة إلى التعبير عبر الشعر والموسيقى والغناء والرسم.
في خضم التغييرات الكبيرة التي طافت حول الدنيا، مع تراجع عقبة الإمبراطوريات، وانتشار التعليم، وظهور الراديو، برزت حالة إنسانية جديدة، موجة الوطنية والقومية. اختلفت نسبة حرارة الحالة من أمة إلى أخرى ومن وقت إلى آخر. الفاشية والنازية كانتا السقف الناري المشتعل لتلك الحالة. تراجع دور العقل ليغرقه خبط القلب. التيار العقدي الآيديولوجي العالمي تصدره الاجتياح الشيوعي. رفعت النازية شعار (ألمانيا فوق الجميع). أما الفاشية فكان خيطها الذي مدته نحو قلوب الإيطاليين هو (المجد لروما)، مستدعية رماد التاريخ لتصنع من غباره جسد الوثن الذي يعبده الحماس الهائج. الصوت الشيوعي الشعاراتي، صرخ (يا عمال العالم اتحدوا). الشعار كان الكبسولة الصغيرة التي تنساب إلى القلب لتبطل مفعول العقل وتشعل نار العصبية العاطفية السائلة. النصف الأول من القرن العشرين، كان زمن القلب سياسياً بنسبة عالية، قدر ما كان زمن العقل علمياً.
نحن العرب عبرنا فيه برزخاً ملتهباً، وإن لم ير الكثيرون حبال لهبه الأحمر. في الحرب العالمية الأولى كانت بعض الأقطار العربية تخضع للعرش التركي المريض قبل أن تكنسه نتائج تلك الحرب، وبعضها الآخر تحت وطأة الاستعمار الأوروبي. تحركت نبضات القلب السياسية بقوة متأثرة بصعود الحركات القومية الشوفينية في أوروبا وتقديم رابطة الدم على نسيج الدين. زكي الارسوزي العربي المتحدر من إقليم الإسكندرون الذي ضمته تركيا، نظّر لفكرة القومية العربية، تأسيساً لهوية جديدة ترث الهوية الإسلامية القديمة التي سادت تحت الخلافة العثمانية التركية الزائلة. قام ميشيل عفلق وصلاح البيطار بتعميق وتوسيع أدبيات الارسوزي. كان النتاج (حزب البعث العربي الاشتراكي).
العامة من العرب التي تحمست للبعث، لم تقرأ كتبه، لكنها تفاعلت مع شعاراته. رفع الحزب شعار، أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وحدة، حرية، اشتراكية. في الحقبة الناصرية وبعد قيام الجمهورية العربية المتحدة، تعدل الشعار ليكون، حرية، اشتراكية، وحدة. مع اتساع انتشار الراديو هيمن الشعار، وتراجعت مساحة العقل الضيقة أصلاً بسبب الأمية. بالراديو، دخل مستورد جديد إلى ساحات القلوب، الغناء وتحديداً الأناشيد وهي القصائد الحماسية التعبوية المغناة رفقة موسيقى معسكرة مهاجمة.
برز ضرب من الشعر جديد في لغة العرب. قفز فوق ما عرف من قبل وهو الغزل والهجاء والمدح والرثاء.
سليمان العيسى، متنبي القومية العربية، قال:
أمة العرب لن تموتي وإنى أتحداك باسمها يا فناء
وبلاد العرب أوطاني وكل العرب إخواني
بعد العدوان الثلاثي على مصر، وانفعال وتفاعل كل العرب نصرة لمصر، اجتاح النشيد عبر الراديو قلوب الكبار وقبلهم الصغار وبينهم الشباب. وبإعلان الوحدة بين مصر وسوريا وما تلاه من تطورات مشتعلة تسيّد النشيد المشهد.
صرخ محمد سلمان:
لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحمى
لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما
لبيك إن عطش اللواء سكب الشباب له الدما
عبد الحليم حافظ الصوت المجنزر، كتيبة الغناء الميداني، قاد معركة السد العالي، ومعارك ما قبل النكسة وبعدها:
قلنا حنبني ودا احنا بنينا السد العالي
وغنى:
يا أهلا بالمعارك
ملايين الشعب تدك الكعب تقول كلنا جاهزون.
صدحت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفايدة كامل بالأناشيد الثورية أكثر مما تحدث السياسيون والمفكرون. عبد الرحمن الأبنودي، وصلاح جاهين وقبلهما عبد الله شمس الدين حلوا محل الارسوزي وعفلق في تعبئة الجمهور. الفنان كمال الطويل نقش الموسيقى فوق وحول الكلام. مرحلة القلب القائد نجحت في أن تعلو على كل الأصوات وتحرك الناس بقوة العاطفة.
(الفؤاد)، هو الحلقة التي تربط العقل بالقلب، يمزج القوتين في انطلاقة الفعل الواعي، ويقود العقل القافلة.