السودان.. مضى عهد السمسرة
طاهر محمد علي طاهر
منذ بزوغ فجر الاحتجاجات السودانية واكتمال نضالها في الحادي عشر من أبريل 2019 يحاول الإسلاميون إعادة عجلة الزمن إلى الوراء ليعيدوا حكم البلد الذي دان لهم ثلاثين عاما، جربوا فيها كل الأطروحات والاستراتيجيات والشعارات التي لم تفلح في تحويل السودان إلى بلد يلعب دوره الرائد أفريقيا وعربياً.. فقادة الإخوان المسلمين الذين صنعوا المصاهرة مع العسكر عبر انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو 1989 كوّنوا حزب المؤتمر الوطني ليكون الذراع السياسي الذي يحكمون من خلاله مؤسسات الدولة التي دانت بفضل تخطيط عراب الإسلاميين وزعيمها حسن الترابي خلال العشرية الأولى للإنقاذ، بطرحه لسياسية التمكين عسكرياً واقتصادياً وأمنياً، وهي السياسية التي شردت الآلاف من موظفي الدولة بفعل الإحالة للصالح العام والفصل التعسفي ليحل مكانهم أصحاب الولاء الحزبي..
الاستقواء بالشريعة
استمر مشروع الإسلاميين بإعلان الشريعة لكن قوانينها لم تكن إلا محض استقواء للسلطة الحاكمة لتمارس إرهاب الدولة على مواطنيها وتسد آفاق التعدد السياسي، وفي لحظة من الزمان أضحى كل من يخالف توجهات السلطة إما هو يساري بامتياز أو مارق عن الملة ليصبح سيف الدين مسلَّطاً على الرقاب وتحوّل الوطن إلى دراويش ووعاظ ولحىً وجلابيب ليسيطر هوس الدين على المنابر والمنصات.. وكثر الأدعياء والأوصياء في الطرقات.. وبات التطرف والتملق مهنة من لامهنة له.
إزاء هذا الوضع اختلت موازين المجتمع الذي عاش في سلام اجتماعي بطبقاته الثلاث “طبقة الأغنياء والوسطى والفقراء” وتلاشت الطبقة الوسطى ليصبح المال دولة بين الأغنياء وتباهياً بين النخبة الحاكمة ومن دان لها بالولاء، وبدأ التململ واضحاً للمطالب بعدالة توزيع الثروة والسلطة ومعالجة قصور توزيع الموارد بين الأقاليم، وهو ما أدى لهجرة عكسية من الريف إلى العاصمة التي حازت على الحظوة والخدمات.. كما صنع الوضع خروجاً على الدولة وحمل السلاح..
شق الصف
في الجانب الآخر بدأ البشير في شق صفّ الإسلاميين، وصناعة البدائل .. وكانت المؤشرات حينها بائنة تلوح بفراق قد لايجمع بين الجانبين، بعدما تمدد سلطان البشير وحاول عراب التجربة حسن الترابي تقليص صلاحياته الدستورية، فأنتج الأمر المفاصلة الشهيرة في العام 1999م، ليسعى البشير بتدوير النخب المعروفة في النظم التسلطية والبوليسية، والذين اطلق عليهم “الصقور” مستخدما أشدهم تسلطاً ومكراً ودهاء من أمثال علي عثمان محمد طه ساعد الترابي الأيمن، ونافع علي نافع “مدير جهاز الأمن الأسبق”، وعوض الجاز “عمل في التنظيم السري” ليخرج للعلن ضمن جوقة حكومة الإنقاذ وأحيل له ملف الاقتصاد والموارد المالية للدولة والبترول، إلى جانب غازي صلاح الدين “مستشار الرئيس وعضو المكتب القيادي للحزب الحاكم، ومسؤول عن أهم ملفين سياسيين هما (ملف إدارة الحوار مع أمريكا) و(ملف حل مشكلة دارفور) وكان عضواً بارزاً في معظم المفاوضات السياسية.
حينها تبدلت الولاءات وتقاطعت الطرقات لتصنع معسكرين هما جماعة القصر التابعة للبشير والمنسلخين، وجماعة المنشية “معقل الترابي الذي يقع بضاحية شرق الخرطوم”..
أخطاء تاريخية
تالياً دخلت البلاد في أخطاء تاريخية وفشل أدى لاندلاع حرب دارفور في العام 2003 والتي شرد فيها الآلاف وقتل نحو ثلاثين ألفا أويزيد في حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية ظل بسببها البشير مطارداً لدى محكمة الجنايات الدولية.. ولم تفلح المفاوضات في إعادة الاستقرار للإقليم النازف الجريح.. وانفتحت جبهات أخرى في إقليم جنوب كردفان بمنطقة جبال النوبة تحديداً، وفي منطقة النيل الأزرق.. ليتشظى الوطن ويتمزق.. تبعه انفصال الجنوب في يوليو 2011، بعد حرب استمرت أكثر من 24 عاماً.. ليذهب النفط الذي يعدّ المورد الرئيس لخزينة الدولة.. كما أدرج السودان ضمن الدولة الراعية للإرهاب وشددت الولايات المتحدة الأمريكية من عقوباتها التي أثرت على مناحي الحياة في السودان.. وهي نتيجة طبيعية لهوس النظام وموالاته لزعيم القاعدة الإرهابي أسامة بن لادن الذي استقدمه النظام وشرع في صفقات واستثمارات ضخمة، كما كشفت وثائق أماطت عنها الاستخبارات الأمريكية أن ابن لادن، خبأ ملايين الدولارات في السودان وأراد أن يتم استخدام معظمها في تمويل الجهاديين .. كما وقع النظام في ورطة أخرى بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في يونيو 1995..
سنوات عجاف
كانت سنوات عجاف على السودان جعلت من المستنيرين والمثقفين يهاجرون بحثا عن ملاذات آمنة وبلدان تحتمل إبداعهم.. هل لك أن تتصور أن الانتاج الثقافي والغنائي العريض لأهل السودان منع من العرض والاستماع عبر الإذاعة والتلفاز الحكومي بحجة أن بعض الأغنيات تحوي مفردات تخالف الذوق العام وبحسب زعمهم تدعوا للرذيلة مثل مفردة “خمر الهوى.. أو أغنية “القبلةُ السكرى”..
ولم يقف الأمر عند ذلك بل مضى إلى عرض مسلسلات عربية والعمل على تغطية أجزاء منها ، بل مضوا لإرغام الممثلات السودانيات لتصوير مشاهد داخل غرف نومهن وهن بكامل ملابسهن ولابأس إن كُنّ محجبات.. وهكذا ظهور ضيفات البرامج وهن محجبات ومنقبات بشكل كامل عبر الشاشات.. كان الهوس أشبه بعقلية طالبان..
محاولات التغيير
انطلقت في أنحاء متعددة محاولات للتغيير لكنها جميعها وجهت بالقوة المفرطة والقمع من نظام بوليسي، لكن شرارة الاحتجاجات التي انطلقت في سبتمبر 2013 كانت الأقوى ليرتكب النظام مجزرة بحق المحتجين وهي واحدة من الملفات التي لم يكشف عنها، لتعقبها هبّة ديسمبر 2018 التي انخرط فيها الشباب من كل صوب، وهم يعلنون ولاءهم للوطن، وينادون بالحرية والعدالة، متجاوزين التصنيفات الحزبية القديمة سواء الأحزاب التقليدية التاريخية، أو العقائدية، أو الحوارات الوطنية التي توهمها النظام لتجميل صورته بعد ثلاثين عاماً.. متجهين نحو المستقبل الجديد للبلاد ومتسلحين هذه المرة باكتمال الوعي وتفويت ألاعيب السياسية، إذ ما عادت نغمة (هي لله..هي لله لا للسلطة ولا للجاه) التي أطلقها النظام دليل تورع وتعمية، تجدي مع شعب هو في الأصل متدين بطبيعته وسلوكه.. وهو مادعا الأديب والروائي العالمي الطيب صالح لأن يكتب مقالته الشهيرة متسائلا “مــن أيــن يأتى هـــؤلاء ؟”
حيث يقول صالح:
السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنّازحين؟ يريدون الهرب إلى أيّ مكان، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم. كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين..
هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذُعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟
الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرحَ في القلوب. لا ضحك في الحناجر . لا ماء، لا خُبز، لاسُكّر، لا بنزين، لا دواء. الأمن مستتب كما يهدأ الموتى .
ويمضي الطيب صالح ليطرح المزيد من التساؤلات في مقالته..
مِن أين جاء هؤلاء النّاس؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات؟
أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟
أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟
أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟
أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي والمصطفى؟
أما قرأوا شعر العباس والمجذوب؟
أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه؟
إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟
وفي خاتمة مقاله يصوب الطيب صالح النظر لقمة الهوس موقناً بأنهم أوصلوا البلد والناس إلى الهاوية..
أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب؟
من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل – مَن هؤلاء الناس؟..انتهى حديث الطيب صالح..
ولعل ما أشار إليه أخيرا كان هو المؤشر الذي أطاح بتجربة الإسلاميين حينما حدثتهم أنفسهم عن تصدير الثورة الإسلامية انتظارا للبيعة، فتناسلت التنظيمات الإرهابية من أرض لم تعرف إلا السماحة واللين.. استقبلوا زعيم القاعدة بن لادن ليستثمر في أرض لم يعش فيها إلا الأخيار الأطهار.. دنسوا قيمته التاريخية وتجربته الإنسانية والأن يحاولون العودة من جديد لشعب اختار الحرية والسلام والعدالة.. وكما قال مغني السودان محمد وردي: بلا وإنجلى.. حمدا لله ألف على السلامة..وتبا لعهد السنسرة..النصب ثم السمسرة.