مقالات مختارة
السودان… شيء من الأمل كثير من الشكوك
نشر في: 17/05/2019 - 11:40
كلما تفاءل الناس خيراً بحدوث اختراق في المفاوضات بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» في السودان بشأن ترتيبات وهياكل الحكم للفترة الانتقالية، يحدث شيء يحبط هذا التفاؤل، ويعيد أجواء القلق، ويغذي الشكوك حول انقسامات داخل المجلس العسكري ووجود جناح يريد عرقلة عملية نقل السلطة، ويوظف كل ما ينسب إلى كتائب الظل من عمليات تستهدف الاعتصام.
فالإعلان عن اتفاق بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» على هياكل السلطة وصلاحيات المجالس الثلاثة المقترحة (مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي)، سرعان ما أعقبه غضب عارم بسبب الهجوم المسلح على المعتصمين يوم الاثنين الماضي الذي راح ضحيته ثمانية أشخاص بينهم ضابط في القوات المسلحة برتبة رائد، وجرح أكثر من سبعين بعضهم في حال خطيرة. وأدى ذلك إلى احتقان شديد في الأجواء بعدما أشار كثيرون بأصابع الاتهام نحو ميليشيا قوات الدعم السريع وحمّلوها مسؤولية التحرش بالمعتصمين ومحاولة إزالة متاريسهم في بعض المواقع، والهجوم المسلح الذي أعقبها وأدى إلى ذلك العدد الكبير من القتلى والجرحى.
وإذا كان يمكن فهم ما ذهب إليه المجلس العسكري من توجيه الاتهام في الهجوم إلى كتائب الظل والدولة العميقة، إلا أنه يصعب فهم قراره اللاحق بتعليق المفاوضات مع «قوى الحرية والتغيير» ثلاثة أيام. فقد كان من الأولى أن يصر المجلس على مواصلة المفاوضات كرد على الهجوم، لا سيما بعد بيانه الذي حذر فيه من قوى تريد إحباط الاتفاق المهم الذي توصل مع «قوى الحرية والتغيير» حول هياكل السلطة والصلاحيات في الفترة الانتقالية. إلا أن المجلس اتخذ قراره المفاجئ بتعليق المفاوضات مشترطاً إزالة المتاريس، ومدافعاً عن قوات الدعم السريع.
الواضح أن العقبات ما تزال كثيرة، والشكوك في النيات قائمة، مما يزيد في المصاعب أمام المفاوضين لا سيما أن شيطان التفاصيل في الاتفاق الذي أعلن قبل أيام لم تتبين ملامحه بعد. وكلما اقترب المفاوضون من اتفاق يمكننا أن نتوقع تصعيداً في تحركات القوى المناوئة التي لا ترغب في إتمامه وستضع المتاريس في عجلات مساعي نقل السلطة.
الهجوم على المعتصمين الذي أدى لتأجيل المفاوضات، كان بمثابة إنذار جديد بأن أي سلطة انتقالية جديدة يتم تشكيلها ستواجه تحديات كبيرة على الصعيد الأمني، الذي سيكون التهديد الأبرز خصوصاً بعد أن ينفض الاعتصام ويعود الناس إلى أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم، وتكون الحكومة وحدها في الميدان وتحت ضغط جبال المشاكل الموروثة، وسقف التطلعات المرتفع. من هذا المنطلق بدا لي غريباً الإعلان عن أن المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» اتفقا على تخصيص الستة أشهر الأولى من الفترة الانتقالية المحددة الآن بثلاث سنوات، لمفاوضات السلام مع الحركات المسلحة وإنهاء الحروب. فهذه المهمة قد تحتاج إلى أكثر من ذلك، لأن تحقيق السلام ليس مجرد توقيع اتفاقات، بل ينبغي أن تتبعه سياسات على الأرض تترجم عملية السلام إلى واقع، وتعيد النازحين واللاجئين، وتضع خططاً للإعمار والتنمية. الأهم من ذلك أن الأمر يحتاج إلى جمع السلاح، واستيعاب أعداد من مقاتلي الحركات المسلحة في القوات النظامية وتسريح البقية. صحيح أن الحركات المسلحة الأساسية تعتبر جزءاً من منظومة «قوى الحرية والتغيير»، إلا أن لديها مطالبها وقضاياها، ناهيك عن طموحات بعض قيادييها، وإيجاد حلول في ستة أشهر سيكون مهمة صعبة.
هناك سؤال آخر في هذا الصدد وهو، هل يفترض أن تخصص الفترة الأولى لمفاوضات السلام مع الحركات المسلحة، أم لتفكيك الدولة العميقة التي ستكون أكبر مهدد لسلطات الحكم في الفترة الانتقالية وللأمن والاستقرار؟
معظم الشكاوى منذ إطاحة البشير كانت تتركز حول الدولة العميقة التي كانت تتحرك لتقويض الاعتصام وضرب الثورة، ونفذت هجمات مسلحة على المعتصمين، مثلما دمرت الكثير من الوثائق والمستندات الرسمية، وهربت أموالاً إلى الخارج، وحاولت تعويق خدمات المياه والكهرباء. الأخطر من ذلك أن هذه الدولة العميقة تملك ميليشيات مسلحة مثل كتائب الظل والدفاع الشعبي والأمن الطلابي وغيرها من التشكيلات، وعناصرها ما زالت طليقة تتحرك وسط الناس.
المجلس العسكري لم يتحرك بجدية ضد الدولة العميقة مما أثار شكوكاً جدية بوجود تواطؤ، بل وحماية لبعض رموز النظام السابق من الاعتقال. فالعديد من قيادات النظام السابق لم تعتقل، وبعضها تمكن من الهرب عبر مطار الخرطوم، والبعض الآخر ما يزال موجوداً في الداخل. أضف إلى ذلك أن هياكل النظام السابق ما تزال موجودة مثل حزب المؤتمر الوطني الذي ما يزال حتى الآن يطل على الناس بالبيانات، والأحزاب الهامشية التي رعاها نظام البشير، وعددها أكثر من مائة، دعاها المجلس العسكري لحوار مما عرضه لانتقادات واسعة بأنه يناور ويماطل لتعويق الثورة ويريد إعادة إنتاج النظام السابق.
المؤكد أن تفكيك الدولة العميقة سيحتاج وقتاً وجهوداً مكثفة، لكنه أمر لا يحتمل التأجيل. هل يعني ذلك تأجيل ملف السلام والمفاوضات مع الحركات المسلحة؟ الإجابة قطعا لا، لأن السودان في أمس الحاجة لوقف الحروب وتحقيق الاستقرار والسلام والأمن لكي يتمكن من التنمية الشاملة وإطلاق مقدراته المعطلة. المشكلة أن الحكومة الانتقالية مهما كانت قدراتها فإنها لن تتمكن من معالجة كل الملفات الكبرى والعاجلة إذا كانت ستقضي جل وقتها في ملفي السلام وتفكيك الدولة العميقة. في تقديري أنه لا بد للحكومة الانتقالية من تشكيل لجان متخصصة تكلف بقضايا مختلفة، مثل لجنة لمتابعة ملف السلام ومعالجة آثار الحروب وجمع السلاح، وأخرى لتصفية الدولة العميقة والإشراف على اعتقال ومحاكمة رموز وقيادات النظام السابق واستعادة الأموال المنهوبة، ولجنة لمراجعة كل الاتفاقيات التي وقعها النظام السابق، ولجنة من قانونيين وخبراء لإعداد مسودة الدستور تعمل مع المجلس التشريعي المؤقت، ولجنة لترتيبات ما بعد الفترة الانتقالية بما في ذلك إعداد قانون للأحزاب وقانون للانتخابات، ولجنة لتنظيم الإعلام وتنقيته من شوائب النظام السابق. هذه اللجان وغيرها ستحمل عبئاً كبيراً عن الحكومة وتتيح لها توجيه جل جهودها نحو المهمة الكبرى المتمثلة في انتشال السودان من وهدته وإعادة بناء الاقتصاد وتحريك عجلة الإنتاج. فمن دون إنقاذ الاقتصاد السوداني سيكون حصاد الحكومة الانتقالية صفراً كبيراً، وسيحمّلها الكثيرون تبعات هذا الفشل مما قد يفتح الباب أمام المتآمرين والمتربصين والطامعين للقفز إلى السلطة إن سنحت لهم الفرصة ووجدوا الذرائع.
فالإعلان عن اتفاق بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» على هياكل السلطة وصلاحيات المجالس الثلاثة المقترحة (مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي)، سرعان ما أعقبه غضب عارم بسبب الهجوم المسلح على المعتصمين يوم الاثنين الماضي الذي راح ضحيته ثمانية أشخاص بينهم ضابط في القوات المسلحة برتبة رائد، وجرح أكثر من سبعين بعضهم في حال خطيرة. وأدى ذلك إلى احتقان شديد في الأجواء بعدما أشار كثيرون بأصابع الاتهام نحو ميليشيا قوات الدعم السريع وحمّلوها مسؤولية التحرش بالمعتصمين ومحاولة إزالة متاريسهم في بعض المواقع، والهجوم المسلح الذي أعقبها وأدى إلى ذلك العدد الكبير من القتلى والجرحى.
وإذا كان يمكن فهم ما ذهب إليه المجلس العسكري من توجيه الاتهام في الهجوم إلى كتائب الظل والدولة العميقة، إلا أنه يصعب فهم قراره اللاحق بتعليق المفاوضات مع «قوى الحرية والتغيير» ثلاثة أيام. فقد كان من الأولى أن يصر المجلس على مواصلة المفاوضات كرد على الهجوم، لا سيما بعد بيانه الذي حذر فيه من قوى تريد إحباط الاتفاق المهم الذي توصل مع «قوى الحرية والتغيير» حول هياكل السلطة والصلاحيات في الفترة الانتقالية. إلا أن المجلس اتخذ قراره المفاجئ بتعليق المفاوضات مشترطاً إزالة المتاريس، ومدافعاً عن قوات الدعم السريع.
الواضح أن العقبات ما تزال كثيرة، والشكوك في النيات قائمة، مما يزيد في المصاعب أمام المفاوضين لا سيما أن شيطان التفاصيل في الاتفاق الذي أعلن قبل أيام لم تتبين ملامحه بعد. وكلما اقترب المفاوضون من اتفاق يمكننا أن نتوقع تصعيداً في تحركات القوى المناوئة التي لا ترغب في إتمامه وستضع المتاريس في عجلات مساعي نقل السلطة.
الهجوم على المعتصمين الذي أدى لتأجيل المفاوضات، كان بمثابة إنذار جديد بأن أي سلطة انتقالية جديدة يتم تشكيلها ستواجه تحديات كبيرة على الصعيد الأمني، الذي سيكون التهديد الأبرز خصوصاً بعد أن ينفض الاعتصام ويعود الناس إلى أعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم، وتكون الحكومة وحدها في الميدان وتحت ضغط جبال المشاكل الموروثة، وسقف التطلعات المرتفع. من هذا المنطلق بدا لي غريباً الإعلان عن أن المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» اتفقا على تخصيص الستة أشهر الأولى من الفترة الانتقالية المحددة الآن بثلاث سنوات، لمفاوضات السلام مع الحركات المسلحة وإنهاء الحروب. فهذه المهمة قد تحتاج إلى أكثر من ذلك، لأن تحقيق السلام ليس مجرد توقيع اتفاقات، بل ينبغي أن تتبعه سياسات على الأرض تترجم عملية السلام إلى واقع، وتعيد النازحين واللاجئين، وتضع خططاً للإعمار والتنمية. الأهم من ذلك أن الأمر يحتاج إلى جمع السلاح، واستيعاب أعداد من مقاتلي الحركات المسلحة في القوات النظامية وتسريح البقية. صحيح أن الحركات المسلحة الأساسية تعتبر جزءاً من منظومة «قوى الحرية والتغيير»، إلا أن لديها مطالبها وقضاياها، ناهيك عن طموحات بعض قيادييها، وإيجاد حلول في ستة أشهر سيكون مهمة صعبة.
هناك سؤال آخر في هذا الصدد وهو، هل يفترض أن تخصص الفترة الأولى لمفاوضات السلام مع الحركات المسلحة، أم لتفكيك الدولة العميقة التي ستكون أكبر مهدد لسلطات الحكم في الفترة الانتقالية وللأمن والاستقرار؟
معظم الشكاوى منذ إطاحة البشير كانت تتركز حول الدولة العميقة التي كانت تتحرك لتقويض الاعتصام وضرب الثورة، ونفذت هجمات مسلحة على المعتصمين، مثلما دمرت الكثير من الوثائق والمستندات الرسمية، وهربت أموالاً إلى الخارج، وحاولت تعويق خدمات المياه والكهرباء. الأخطر من ذلك أن هذه الدولة العميقة تملك ميليشيات مسلحة مثل كتائب الظل والدفاع الشعبي والأمن الطلابي وغيرها من التشكيلات، وعناصرها ما زالت طليقة تتحرك وسط الناس.
المجلس العسكري لم يتحرك بجدية ضد الدولة العميقة مما أثار شكوكاً جدية بوجود تواطؤ، بل وحماية لبعض رموز النظام السابق من الاعتقال. فالعديد من قيادات النظام السابق لم تعتقل، وبعضها تمكن من الهرب عبر مطار الخرطوم، والبعض الآخر ما يزال موجوداً في الداخل. أضف إلى ذلك أن هياكل النظام السابق ما تزال موجودة مثل حزب المؤتمر الوطني الذي ما يزال حتى الآن يطل على الناس بالبيانات، والأحزاب الهامشية التي رعاها نظام البشير، وعددها أكثر من مائة، دعاها المجلس العسكري لحوار مما عرضه لانتقادات واسعة بأنه يناور ويماطل لتعويق الثورة ويريد إعادة إنتاج النظام السابق.
المؤكد أن تفكيك الدولة العميقة سيحتاج وقتاً وجهوداً مكثفة، لكنه أمر لا يحتمل التأجيل. هل يعني ذلك تأجيل ملف السلام والمفاوضات مع الحركات المسلحة؟ الإجابة قطعا لا، لأن السودان في أمس الحاجة لوقف الحروب وتحقيق الاستقرار والسلام والأمن لكي يتمكن من التنمية الشاملة وإطلاق مقدراته المعطلة. المشكلة أن الحكومة الانتقالية مهما كانت قدراتها فإنها لن تتمكن من معالجة كل الملفات الكبرى والعاجلة إذا كانت ستقضي جل وقتها في ملفي السلام وتفكيك الدولة العميقة. في تقديري أنه لا بد للحكومة الانتقالية من تشكيل لجان متخصصة تكلف بقضايا مختلفة، مثل لجنة لمتابعة ملف السلام ومعالجة آثار الحروب وجمع السلاح، وأخرى لتصفية الدولة العميقة والإشراف على اعتقال ومحاكمة رموز وقيادات النظام السابق واستعادة الأموال المنهوبة، ولجنة لمراجعة كل الاتفاقيات التي وقعها النظام السابق، ولجنة من قانونيين وخبراء لإعداد مسودة الدستور تعمل مع المجلس التشريعي المؤقت، ولجنة لترتيبات ما بعد الفترة الانتقالية بما في ذلك إعداد قانون للأحزاب وقانون للانتخابات، ولجنة لتنظيم الإعلام وتنقيته من شوائب النظام السابق. هذه اللجان وغيرها ستحمل عبئاً كبيراً عن الحكومة وتتيح لها توجيه جل جهودها نحو المهمة الكبرى المتمثلة في انتشال السودان من وهدته وإعادة بناء الاقتصاد وتحريك عجلة الإنتاج. فمن دون إنقاذ الاقتصاد السوداني سيكون حصاد الحكومة الانتقالية صفراً كبيراً، وسيحمّلها الكثيرون تبعات هذا الفشل مما قد يفتح الباب أمام المتآمرين والمتربصين والطامعين للقفز إلى السلطة إن سنحت لهم الفرصة ووجدوا الذرائع.