السودان.. دفء الوطن والعشيرة
طاهر محمد علي طاهر
عدت إلى أهلي يا سادتي.. بعد غيبة طويلة.. لعلها عشرة أشهر أو يزيد، كنت خلالها قريباً من الوطن بعيداً بحكم الجغرافيا.. أتابع في غربتي الممتدة إلى سنواتها السبع، كل صغيرة وكبيرة عن الأحداث والناس، عن الموت والقتل، وعن الديمقراطية التي أنبلج فجرها، والمدنية التي فرح بها أناس، وشقي بها آخرون، الديمقراطية التي جعلت الشباب يترنمون “سودان من غير كيزان” والكيزان هم ثلة جاؤوا ذات ليل دامس على ظهر دبابة وجثموا على صدر الشعب السوداني لثلاثين عاماً حسوماً.. إنهم الإسلاميون وعسكرهم..
لم يغب عني الكثير من التحولات.. عدت وبي شوق عظيم كما قال الطيب صالح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال: “عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل.. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولمّا جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائما بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس.. ذاك دفء الحياة في العشيرة فقدته زمانا في بلاد “تموت من البرد حياتها”.
عدت إلى السودان تحمل عيناي الدموع التي ترقرق أجفاني.. حطت بي الطائرة أرض المطار، وهي المرة الأولى التي أحس فيها بأن مطار الخرطوم البائس منذ زمان طويل صارت جنباته نضيرة وأكثر نظافة وأناقة، وهدوءاً من تلك الضجة والفوضى التي ضربته كما ضربت وطناً بأسره.. نزلت دون أن أتوقف طويلا في طوابير الوصول وملء استمارات الشرطة البائسة، ما كان عليّ غير أن أقف لحظات وأمد جواز سفري للمسؤول مع التحية، ليمرره على جهاز التصوير الضوئي ويرده ليّ على الفور.. نظرت في عيون الناس، فأردت أن أستوفي شروط الشوق، أو يؤازرني أحدهم الفرحة التي تملؤني بشأن التغيير الكبير، لكن الكل مرهق، وتحس بأن الصبر مازال كامناً في الصدور، في انتظار أن يبدلهم الله راحة بعد شقائهم الطويل.. أصريت على سائق السيارة التي أقلتني إلى المنزل أن يسلك طريق قيادة الجيش، ذلك المكان الذي شاهده العالم بأسره عبر شاشات التلفاز والسوشيال ميديا.. عالم الثورة والتغيير، حيث الهتافات والأهازيج، والأضواء التي تغازل الآمال والأحلام، واللافتات التي لونت بشعارات الحرية والسلام والعدالة.. بوابات قيادة الجيش وأسوارها مازالت كما هي ثابتة مستقرة، وإن رآها البعض قد زالت من الوجدان وسقطت في قاع الذاكرة التي حملت على منسوبيه الغدر والهوان، والثوار يقتلون وتحرق خيامهم، والثائرات يغتصبن في نهارات رمضان..
شريط طويل وأنا أعبر الشارع الأمين الذي لم يكذب في يوم من الأيام، فلم يبق فيه إلا بعض من الرسومات على الجدران وذكريات الدماء العالقة، ترآءت لي وقتها الوجوه التي تصدت لعنفوان النظام وقتها، فتيان في ريعان الشباب عقولهم مفتوحة، وصدورهم أيضاً مفتوحة للرصاص ونيران الجنود الأراذل الذين رأيتهم نهايات ديسمبر 2018 وسط الخرطوم مدججين بالأسلحة والنوايا السيئة يدفعهم الطاغية للدفاع المستميت على عرشه. لم أجدهم هذه المرة وقد دارت عليهم الدوائر.. تلك الأيام نداولها بين الناس فما أفلح الطاغية، ومابقي زبانيته وزالت دولة الظلم.. وأضحوا مجندلين في السجون تتبعهم اللعنات.
وصلت أهلي وأصدقائي وأحبابي فلم أجدهم إلا مستمسكين بالمضي قدماً في تحقيق التغيير كاملاً، ويعلمون أن الضريبة باهظة رغم مشقة الحياة وعنت الأزمات التي يتلقاها الناس صباح مساء، في معاشهم وعلاجهم وتواصلهم، لكن النماذج الفريدة تُحكى في المجالس، وتُروى على ألسنة الخيرين من أبناء الشعب السوداني، ولم يضق الصدر أو يئن عندهم إلا من مماحكات السياسيين وخلافاتهم، رغم الأيادي الخفية التي تحاول العبث باستقرار البلاد أو شق الصفوف ونهب ما تبقى من ثروات، لكن الوعي الذي قادهم للتغيير باق في قراءاتهم وتحليلهم للأوضاع، فالسوداني قارئ جيد في شؤون السياسية والرياضة والتاريخ والمعارف ولا يفوته موقف دون تعليق وتحليل، لذلك لم تنطل عليه أحابيل الآلة الإعلامية والخطاب الذي حاول التشويش على رؤاه ووعيه، فكانت مطالبه للحكومة الانتقالية إزالة الدولة العميقة ومعالم التمكين التي رسخها النظام السابق في مفاصل الدولة، ورفع يده عن الاقتصاد والأمن والتعليم والصحة، وكنس آثار التشوهات التي صاحبت الحياة العامة، لتعود رويداً رويداً للسودان لياليه وندواته السياسية والثقافية، جلسات الأنس والسمر والمثاقفة في ليل الخرطوم البهيج، في المقاهي والساحات العامة والمسارح، وعلى شاطئ النيل الجميل..
آمال بحياة جديدة، لكن نعيق البوم لا يزال يكرر خطابه المتشدد لحكم الناس بفتاوى علماء السلطان، والزيف الذي استصدر للناس فقه السترة والتحلل والتمكين ولم يعلمهم غير سنن الحيض وتعدد الزوجات، ليحظوا بالحوريات في دنياهم، ويشردوا أبناء الوطن في المهاجر والمنافي.. الرحلة طويلة وطريق الشعوب نحو المجد أطول.. والسودانيون ماضون بصبرهم العتيد إلى أن تتحقق مطالبهم بعيش رغيد يستحقونه، وحين ينكص السياسيون وعودهم سيلقون منهم ذات المصير، والتاريخ لا يكذب.. وكما قال الزعيم السوداني إسماعيل الأزهري: الحرية نور ونار.. من أراد نورها فليكتوي بنارها..
لكن شاعرنا محمد المكي إبراهيم كان واثق الحرف حينما كتب ذات مرة لجيله اعتزازاً وافتخاراً:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة
جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمة
المستميتِ على المبادئ مؤمناً
المشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
جيلي أنا.. جيلي أنا