السماع بالعين
عمر أبو القاسم الككلي
ليس من شأن هذا المقال تفحّص العوامل والشروط التاريخية التي اخترع الإنسان، ضمن تفاعلها وحراكها، الكتابة، وإنما هو يولي اهتماما بالأثر الذي أحدثه هذا الاختراع في البنى الفكرية والنفسية والثقافية المكونة للحضارة الإنسانية.
لقد أدى دخول الكتابة إلى حقول التعامل الإنساني، ولأول مرة تقريبا، إلى نشوء “تنافس” بين حاستين من حواس الإنسان، هما الأذن والعين.
فقبل اختراع الكتابة كانت الأذن هي التي تحتكر تلقي الكلام. لكن، بظهور الكتابة واصطيادها الكلام الشفاهي ومحاولة تقييده وحبسه في نصوص على أديم الكتابة، زحفت العين على إقليم الإذن، على السماع، فصارت تشاركها تلقي الكلام، وبذا كسرت احتكارها لهذا التلقي، بنقل قدر منه، أو أسره، داخل إقليمها، أي البصر. وبالتالي أصبح الكُتاب، بمعنى الأشخاص الممتهنين حرفة الكتابة، ذوي حظوة وامتياز لدى السلطات السياسية، وحتى الدينية، كما صاروا “قراصنة” يسطون على إنتاج الحكائين والرواة، خالقين بذلك جمهورا جديدا يعتمد على العين (= القراءة) وليس الأذن (= السمع). وإذن، فإن القراءة هي بمثابة سماع بالعين.
أثناء سيادة المشافهة، لعبت الذاكرة الفردية دور البطولة المطلقة في حفظ التراث ونقله. لكن الكتابة خلقت، إذا ما استعرنا التعابير التي استحدثها ظهور الكومبيوتر، “ذاكرة افتراضية، أو وهمية” تتموضع خارج الفرد، موازية للذاكرة الكائنة داخله. هذه الذاكرة الوهمية أخذت تزايد على “الذاكرة الصلبة” الثابتة داخل الفرد، المُعرضة، رغم صلابتها، للعطب والخلط والنسيان. وعليه صارت الذاكرة الافتراضية أكثر صلابة وأصالة وثباتا من الأولى، لأنها معصومة من الخلط والنسيان، وأصبحت هي المرجع الموثوق، وبذلك، غدت، أكفأ وأكثر قدرة على نقل التراث عبر الأجيال، وعبر العصور، وهو ما تعجز عنه “الذاكرة الطبيعية”.
هذه المنافسة بين الأذن والعين، وبين الذاكرة الطبيعية والذاكرة الوهمية، ألحقت أضرارا بالأولى لصالح الثانية. فصار الفرد الذي يمتلك القدرة على القراءة يعتمد على الكتب والسجلات، أي على العين والذاكرة الوهمية، مُهملا تدريب الذاكرة الصلبة على الحفظ، ومُهملا تنشيطها، فأخذت تكسل وتضمر. وفي هذا السياق نورد حكاية طريفة يرويها أبو حامد الغزالي، مؤداها أنه بينما كان عائدا في سفرة قطع لصوص عليه الطريق وسلبوه مخلاته ظناً منهم أن بها نقودا وأشياء ثمينة. فترجاهم أن يردوها له، لأن فيها كتباً دوَّن فيها ما حصله من علم على مدى سنوات. فسخر منه زعيم اللصوص لأنه يزعم أنه عالم، على حين أن العلم في الكتب وليس في عقله، وأنه إذا فقدت الكتب ضاع علمه. لكن في النهاية أعاد إليه الكتب. ويخبرنا الغزالي أنه أنفق الثلاث سنين التالية في حفظ ما تجمّع لديه من كتب، بحيث لا يفقد العلم حال ضياعها.
من الناحية الاجتماعية، أسست الكتابة لاستقلالية الفرد. فقبل ظهورها كان الكلام يتطلب التقاء شخصين على الأقل، ويجري التفاعل المباشر بينهما. أما بعد ظهورها أصبح بإمكان الفرد تلقي الكلام في وحدة وعزلة، وتظل ردة فعله وحيدة الاتجاه.