السلطان في متاهته
رفعت المحمد
بعد اليأس من شفائه، طلب الطبيب الخاص من بطل أمريكا اللاتينية سيمون بوليفار أداء طقوس الاعتراف، فرفض صارخا في وجهه: “ما هذا ؟.. هل حالتي سيئة إلى الحد الذي يجعلك تطلب مني الوصية والاعتراف؟.. كيف سأخرج من هذه المتاهة”. وهي العبارة التي ألمح إليها الكاتب الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز” في روايته التي تناولت حياة بوليفار “الجنرال في متاهته”.
تذكُّر القصة ليس بابا للمقارنة بين شخصيّتي بوليفار والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فشتّان بين الرجلين من جهة الإنجازات، غير أنه يمكننا اختزال الحال الذي وصل إليه أردوغان هذه الأيام بالعنوان الذي اختاره ماركيز لروايته.
فالرئيس التركي يعيش حالة من التخبط في سلوكه السياسي، بعد سلسلة من الصفعات التي تلقّاها خلال السنتين الأخيرتين، ما يجعل الهالة التي رسمها حول نفسه كنجم سياسي تأفل شيئا فشيئا، فالانهيارات الاقتصادية المتلاحقة التي تعصف بتركيا، وطوابير المواطنين الطويلة بانتظار الحصول على سلع أساسية، جعلتهم يعون تماما زيف الحقائق التي حاول ترويجها خلال خطاباته المتكررة التي عكست نرجسية عميقة بدأت تعصف بعلاقاته على المستويين المحلي والدولي.
وعود أردوغان الكاذبة دفعت جماهيره إلى التخلي عنه وتوجيه إنذار شديد اللهجة عبر الانتخابات البلدية الأخيرة، وهي التي خسر فيها أبرز معاقله في البلديات الكبرى، ما ينذر أيضا بفتح ملفات فساد عششت في سجلاتها على مدى ربع قرن من سيطرة حزبه عليها. لكن جنون العظمة عند الحاكم الفرد، تجعله لا يعترف بحجم الخسارات مُنيَ بها في الآونة الأخيرة.
على الصعيد المحلي بدأت التصدعات الداخلية لحزب العدالة والتنمية تظهر للعلن، وخطوات الإقصاء غير المحسوبة لأسماء كبيرة تحولت للعنة على من أراد أن يكون النجم الأوحد، فحليف الأمس المقرب والزعيم السابق للحزب أحمد داود أوغلو لا يعجبه الحال الذي آل إليه الحزب، إذ وجه انتقادات، وإن بدت هادئة في ظاهرها، فهي مسمومة وحادة في جوهرها، عزا خلالها الأداء الضعيف للحزب في الانتخابات الأخيرة إلى تحالفه مع القوميين في انعطافة غير موفقة بسياسته، وهي انتقادات لا شك تثير مخاوف السلطان من فتح دفاتره القديمة، خاصة أنها صادرة عمّن يعرف أسراره ومكامن ضعفه، ومن مأمنه يؤتى الحَذِر. كما بدأت تطفو للسطح دعوات من مناصري الحزب لإعادة بعض الأسماء القديمة مثل عبدالله غول، الأمر الذي أثار جنون أردوغان، فشرع باختراع معارك خارجية وظّف لها خطابه المتعالي مرة أخرى.
دوليا، لا تبدو المتغيرات السريعة في صالح أردوغان وسياساته التوسّعية الحالمة بإعادة أمجاد السلطنة مستندا إلى الإرث العثماني الذي بات مكشوفا لكثير من المخدوعين سابقا، خاصة ما يتعلق بخسارة النفوذ الأفريقي، بعد التحولات الجذرية التي تعيشها بلدان عدّة في القارّة السمراء.
في السودان ثمّة ضغوط كبيرة على المجلس العسكري لإلغاء اتفاقيات استراتيجية كان الرئيس السابق عمر البشير قد عقدها مع أنقرة تتعلق بصورة خاصة بإنشاء قواعد عسكرية لتركيا، والإلغاء أمر وارد الحدوث مع ميل ملحوظ للمجلس نحو المحور المناهض لسياسات تركيا وحليفتها قطر في المنطقة.
ويشكل التحرك العسكري لقوات الجيش الوطني في ليبيا نحو تحرير العاصمة طرابلس من المليشيات المسلحة التي تتحالف بأغلبها مع تركيا وتتلقى منها دعما غير محدود، لاسيما جماعة الأخوان المسلمين، صفعة قوية للسياسة التركية التي لم تتورع عن ارتكاب الكثير من الحماقات، بتقديم الدعم العسكري لجماعات إرهابية، عبر شحنات الأسلحة للمقاتلين المتشددين في ليبيا، ومن قبلها الفضائح التي كُشفت عن تسهيلها مرور المقاتلين والأسلحة لداعش في سوريا.
والخوف التركي من تطورات الأحداث في طرابلس يتعدى مسألة خسارة الحلفاء، إلى مخاوف حقيقية من الكشف عن وثائق ومستندات تشكّل أدلّة ملموسة على تورطها في تغلغل الإرهاب في ليبيا ودعمه، ما يشكّل مستندا قانونيا يرتكز إليه معارضوها باللجوء إلى القضاء الدولي لمحاسبة أنقرة على الانتهاكات التي ارتكبها أزلامها في ليبيا.
فضيحة تركيا في ليبيا سيكون لها امتدادات على دورها في تونس، ودعمها لحركة النهضة التونسية، الذراع الأخواني هناك، حيث ستجد الحركة نفسها محاصرة بين وقف الدعم الخارجي لها، وإرهاصات المشهد الداخلي المتعلقة بنصيبها في ما يعيشه الشعب التونسي من أزمات خانقة من نواحٍ عدة، اقتصاديا واجتماعيا.
إن الماكينة الإعلامية المؤيدة لأردوغان لا تنفك ترتجل أساليب جديدة بأدوات قديمة، في محاولة للتغطية على الفشل المستفحل في سياساته الداخلية والخارجية، غير أنها أحيانا تؤدي عكس المأمول منها، فيزداد مؤشر شعبيته هبوطا، الأمر الذي قد يدفعه قريباً للصراخ: كيف سأخرج من هذه المتاهة؟!