الراحل محمود جبريل.. سيرة نخبوي شغله انفتاح ليبيا على العالم
لم يكن غياب محمود جبريل حدثًا عابرًا ذا طبيعة محدودة ينحصر تأثيرها على المحيط الاجتماعي الأقرب للرجل ولكنه كان فقدًا بحجم وطن جاء في ظرفية تاريخية تحتاج فيها البلاد إلى رجالات الفكر والسياسة في معتركها نحو تثبيت أسس وقواعد الدولة في طريق متعثر تملؤه العوائق والصعوبات المسيجة بمنظومة متوارثة من الاستبداد وشرعنة القوة وعشوائية التخطيط والإدارة.
ثوابت في المشهد الليبي؛ شكّلت إزاحتها مهمة معقدة تحتاج لأدوار نخبوية توازن بين البيئة المجتمعية المتناغمة مع معطيات المرحلة ورؤية نهضوية شاملة تحاكي ضرورات العصر وتحقق الحد الأدنى من التنمية والسلم الأهلي، وهي موازنة وإن بدت في إطارها النظري متاحة وقابلة للتنفيذ، إلا أنها سرعان ما اصطدمت بتحديات الثابت والممنوع عن ملامستها للواقع العملي.
حاول محمود جبريل تقديم مقاربة اقتصادية وتنموية شاملة تساهم في انتشال الدولة المتوسطية ذات الحضور الجيوسياسي المتميز والوفرة المالية الظاهرة والإمكانات البشرية والاقتصادية الواعدة، من واقعها الريعي المؤسس على عوائد النفط وفساد القطاع العام وسطوة المركزية إلى آفاق التنمية الاقتصادية المتوازية مع بناء الإنسان الذي لطالما عدّه جبريل حجر الزاوية في أي طرح اقتصادي.
ظهرت بدايات تصور جبريل ورؤيته للدولة الليبية في مشروع ليبيا الغد الذي حاول من خلاله النظام السابق إعادة إنتاج نفسه على مختلف الصعد، بمنظور تنموي شامل يتجاوز سنوات الجمود والركود الاقتصادي والمؤسساتي، ويتناغم مع الانفتاح السياسي على العالم بعد سنوات من القطيعة والعزلة، وهو مشروع نقل فيه جبريل رفقة آخرين خبراته في التخطيط والادارة المؤسساتية، في خطة شاملة تبناها النظام السابق قبل أن يحيدها جانبًا مع اشتداد الصراع الداخلي داخل أروقة نظام القذافي بين الحرس القديم والجديد لتهمل جوانب الخطة النهضوية الشاملة كافة ويعود النظام لقواعده الاقتصادية الاشتراكية ومنطلقاته الفكرية الشمولية المعادية لأي طرح يقوم على أدوات السوق والانفتاح على متطلبات العصر الحديث.
فشلٌ شكّل صدمت لجبريل الذي لم يخفي آثار الخيبة بعد أن رمى القذافي بخطة ليبيا الغد متمسكا برؤيته وفكره الأحادي لتشكل ثورة 17 من فبراير انطلاقة جديدة وفرصة براقة لإنفاذ رؤية تطويرية للدولة بعد زوال أهم عوائقها وانفتاح الشعب الليبي على التجارب العالمية وتوجهه نحو صياغة عقد اجتماعي جديد مع الكثير من الأجواء الإيجابية التي تحمس لها الفقيد فأدار المكتب التنفيذي باقتدار لافت ونجح في منح الثورة وإرادة التغيير زخماً اضافياً مستغلاً حضوره المتميز في أروقة الفكر ودوائر صناعة القرار حول العالم.
ورغم سقوط النظام، كان قيادة المجتمع الليبي المنقسم على نفسه أهم التحديات في أي مشروع نهضوي يتمسك بأدوات الحداثة وسياقات الفكر الحر وهي معطيات فرضت تصادما حتميًا مع الجماعات الأصولية ذات الميول الراديكالية والتي تنافس بدورها على طرح تصورها المبهم القائم على عشوائيات فكرية تعاند معطيات الواقع الدولي وتتمسك بموروث ديني يُخضع عمدًا في غير سياقاته ويقدم جبرًا على أنه الحل الأمثل للواقع الليبي ليمر الليبيون إلى نفق الأصولية الدينية بعد أن حصروا لعقود في الفكر الاشتراكي الشيوعي الذي أنتج الفشل.
صدام؛ واجهه جبريل بطرح حداثي قائم على تحرير الاقتصاد الوطني من سطوة القطاع العام وتشجيع الاستثمار عبر تحديث جذري للقوانين والتخفيف من التوظيف في القطاع العام عبر تشجيع التسهيلات المصرفية وتنمية المبادرات الفردية مستعينًا بالتجارب النهضوية وعلى رأسها التجارب الناجحة في دولة سنغافورة والتي شكلت نموذجًا للحوكمة الاقتصادية وتحديث الأوليات وحققت معدلات تنموية لافتة في أوقات قياسية.
دعا جبريل إلى دعم الموانئ والمنافذ الجوية الليبية والتركيز على تجارة العبور في دولة تتربع على مساحة شاسعة تحدها ست دول وتطل على البحر المتوسط، الذي يعد البوابة التجارية الأكثر حيوية حول العالم، واستحداث فرص عمل تقوم على التنمية المستدامة التي تنطلق من التجمعات الحضرية والريفية المكانية التي تعالج التكدس في المدن وتخفف من وطأة “الدولة المدينة” والتي طالما انتقدها جبريل في إشارة إلى تكدس السكان والموارد في المدن الكبيرة كطرابلس وبنغازي وهو تحدٍ يحتاج إلى انفتاح مجتمعي يحافظ على الهوية الليبية، ويقبل الآخر عبر دعائم دستور مدني يضمن تداول السلطة والحكم الرشيد ويرسّخ اللامركزية الإدارية.
مشروع نهضوي ورؤية واثقة تدعمها نماذج عالمية رائدة نجحت في التغيير ؛ تغيير عانده الفكر الأصولي الذي رأى في جبريل خطرًا داهمًا على مشروعه القطبي الأحادي فكان التكفير هو الأداة الأكثر جهوزية والأكثر استخدامًا في أدبيات هذه التنظيمات التي لم تدخر جهدًا في تجريد أفكار الرجل واجتزائها من سياقاتها وإنزالها منزل الشك والتكفير ليمثل جبريل واجهة المجتمع المدني في ليبيا التي حاول جمع شتاته في تكوين حزبي كان دائمًا يعتبر نواة شعبية للتيار المدني في البلاد؛ إلا أن الموت سبق جبريل وغابت عن البلاد تلك الشعلة الفكرية النيرة التي آمنت دائمًا بالإنسان لتدخل البلاد في أتون صراع سياسي أفقدها بوصلة التنمية والبناء وتوزعت نخبها التائهة بعد رحيل جبريل في مدارات الاستقطاب والحيرة.