الذكرى الرابعة لرحيل يوسف القويري.. المعلم المستنير
دائماً ما كان لمسارات التحرر ومناقضة التخلف شذرات ترسم الملامح الشخصية لصاحبها، وتتعايش معه حتى تجعل منه حالة فريدة في تكوينها، تتصادم مع محيطها الذي يحاول أن يتآلف معها دون جدوى، فتتأثر هذه الشخصية الثائرة بلذة الإنزواء والغياب الجبري إلا أن واجب المعرفة يدفعها مرة أخرى للتعبير ورفض الركون لإرادة الإقصاء، فتعمل جاهدة على تغيير الواقع بالكلمة والقلم وباستشراف حداثي للمستقبل الذي لا يتغير إلا بطليعة نخبوية تأخذ على عاتقها دور التبصير والتنوير.
يوسف القويري.. هي تلك الشخصية التي جمعت كل التناقضات فكان تنويرياً في زمن آثر فيه الجميع التمترس حول حوائط الماضي فكان الفكر الحداثي تهمة تقود صاحبها إلى العزلة، خاصة في المجتمعات ذات الطبيعة الريعية التي ينعدم فيها التدافع الاقتصادي الذي يحرك أدوات الفكر وينتج الثقافة ويستولد رأس المال، فلا حاجة للفكر طالما كان مصدر الرزق مؤمّناً ويمنح النظام السياسي القدرة على إعادة إنتاج نفسه على كل المستويات.
بدأ القويري حياته ثائراً يسارياً عايش عنفوان التغيير وإعادة تشكل الأنظمة السياسية في المنطقة مع صعود التيار القومي في مصر، حيث وُلد ودرس الكاتب الراحل وعانى جبراً ككل صاحب رأي حر من معايشة تجربة السجن وتكميم الأفواه، حتى اختار معاودة بلاده التي كانت بيئة مستنسخة في محيط عربي متشابه، فجال بقلمه في الصحف المحلية منها الميدان، والحقيقة، وطرابلس الغرب، في أسلوب كان يخاطب به القويري المستقبل وكأنه كان يتحاشى الصدام مع الواقع اليائس عبر مخاطبة المستقبل الذي يتوق له الجميع إلا أنهم يخشون السير في مساربه.
حاول القويري أن يستفز بكلماته المقاتلة ذلك الشرق المتثائب المبتعد عن سياقات الزمان والمكان، عبر قطرات من الحبر رسم خلالها خيوطاً رفيعة خاصمت الحاضر، ولكنها توسمت فيه الأمل فعصر النهضة القادم وفق الرؤية الاستشرافية للقويري ظهرت في مؤلفه الذي اختصر المسارات وآمن بالعلم وسيلة أحادية وجبرية للنهوض، فاستحق بجدارة لقب المعلم الذي انتقد الواقع برؤية رجل لم يولد بعد فهو لم يكن رجل ذلك الزمان، حيث ظل يعاند الواقع حتى رحيله عام 2018 بمسيرة زاخرة بالمؤلفات وبرؤية سبقت زمانها، فرآها الكثيرون وحياً من خيال يستعصى فهمه.