الدستور الليبي والمغالبة
د. جبريل العبيدي
الدساتير القابلة للحياة والتعايش السلمي لا تكتب ولا تقر ولا تسري بالمغالبة، وإلا لن يكتب لها الحياة وستنتهي وتموت قبل أن يجفّ حبرها، فالمغالبة لا تحقق أي درجة من درجات التعايش السلمي، بل إنها ستؤسس لغضب قد لا تتكهن بنتائجه.
عندما كتب الآباء المؤسسون دستور ليبيا في عام 1951 كان أساس عملهم هو التوافق بين جميع مكونات الأمة الليبية، ولهذا قدموا عقداً اجتماعياً قابلاً للحياة والتعايش وحققوا السلم المجتمعي لسنوات، قبل أن يعطله العسكر في انقلاب سبتمبر (أيلول) 1969، وانتهت به ليبيا إلى جماهيرية القذافي 42 عاماً، تقلب خلالها النظام بين جمهوري وجماهيري وحتى الفوضوي.
الدستور هو في الأصل عقد اجتماعي بالتوافق بين الجميع وليس بالمغالبة، فهذا دستور وحق للجميع، وإلا لن يمر ولن يحقق السلم المجتمعي وسيكون منطلقاً لحرب أهلية، إن تم بالمغالبة وتجاهل حق الآخرين.
اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور التي تشكّلت على أساس التمثيل المتساوي بين (الأقاليم) التاريخية الثلاثة طرابلس وبرقة وفزان مكونة من 20 ممثلاً عن كل (إقليم) وإذا رفضها إقليم عبر ممثليه أو أغلبهم، فهذا يجعل التوافق غير ممكن، ولذا كان الخطأ من بداية التأسيس.
أغلب ممثلي إقليم برقة في اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور رفضوا المسودة التي مررتها اللجنة للاستفتاء، وبالتالي هذه مسودة لا تمثل برقة، فلجنة الستين أسست على التمثيل المتساوي بين الأقاليم الثلاثة؛ 20 ممثلاً عن كل إقليم، وهذا إقليم رفضها عبر ممثليه أو أغلبهم، مما يجعل التوافق غير ممكن.
مسودة الدستور التي تم تمريرها إلى البرلمان ثم تقديمها إلى الاستفتاء الشعبي، كتبت بحبر إخواني واضح المعالم في لغة النص والنصوص، فقد تنكرت لعربية ليبيا ولأمتها رغم أن 96 في المائة من سكان ليبيا عرب، ومررت تسميات كمجلس الشورى بدلاً عن مجلس الشيوخ، وتلاعبت في آلية اختيار الأعضاء بين الانتخاب والتمثيل، واعتمدت المغالبة السكانية بين الأقاليم في حين أن اللجنة أو الهيئة في قرار تشكيلها اعتمدت نظام الأقاليم الثلاثة. مسودة الدستور الجدلية كرست لمركزية السلطة حتى الخدمية منها (التعليم والصحة) وهذا من أكبر فصول معاناة المواطن الليبي في دولة يبلغ طول الساحل فيها 2000 كلم ومساحتها أكبر من خمس دول أوروبية مجتمعة، واعتماد النظام المركزي سيرهق المواطن ويهدده بالنقص في الخدمات وتعثرها، في حين دستور عام 1951 كان دستوراً اتحادياً تقاسمت فيه الأقاليم التاريخية (طرابلس وبرقة وفزان) الثروات بالتساوي، وكذلك السلطات، وحقق قدراً من تكافؤ الفرص وحقق العدالة وليس فقط المساواة.
ولعل ما ذكره السيد غسان سلامة المبعوث الجديد يترجم حقيقة واقعة حين قال: «اتفاق الصخيرات مرجعية، ولكنه ليس مرجعية قرآنية، وفكرة الانتخابات لا يمكن أن تكون ضد فكرة الاحتكام للشعب… لكنها تصر على أن يكون هذا الاحتكام بشروط وظروف تعبر عن إرادة الليبيين، ورسالتي إلى الليبيين إذا شئتم إبقاء الأمور على ما هي عليه فلستم بحاجة لي…».
مسودة الدستور قد تكون كتبت بحبر تيار لا يؤمن بالدولة الوطنية بمفهومها الجغرافي المحدد، فما نشر من مسودات ومذكرات لا يرقى إلى طموحات الليبيين، بل إنه يمثل صدمة وخيبة أمل كبيرتين، بل وفتح الباب أمام التكهنات، خصوصاً عندما تسقط الهوية بدءاً من اسم الدولة إلى انتمائها للوطن العربي، وجعلها مجرد كيان في أفريقيا، وإغفال عناصر الهوية المادية الفيزيائية والانتماءات الاجتماعية والسمات الموروفولوجية، والعناصر التاريخية من أصول وأحداث وآثار.
نحن شركاء وطن ونضال، ولهذا في اعتقادي أن أسلم نهج للتعايش في ظل الوطن، هو التحرر من أي تعصب، والابتعاد عن منهج التصادم والتضاد وكتابة دستور بالتوافق لا المغالبة.
ليبيا ستبقى واحدة غير منقسمة، لأن عناصر التشابك والارتباط التاريخية أكبر وأقوى من عوامل ضعيفة يمكن استخدامها بين الحين والآخر لتفتيت ليبيا، حتى ولو كانت مسودة دستور كتب بحبر المغالبة.
___________________________
صحيفة الشرق الأوسط