الخطاب، الثقافة، والآيديولوجيا
باربارا جونستون
ترجمة: عمر أبوالقاسم الككلي
المصطلحات الرئيسية الثلاثة التي تنبني عليها فرضيات سابر- ورف Sapir-Whorf هي “اللغة” و “التفيكر” و”الواقع”. وإحدى الصعوبات التي تواجهنا في تقرير الوجه الذي ينبغي أن نفهم عليه معنى فرضيات سابر، وكيف ندرسها، هو أنه ما من مصطلح من هذه المصطلحات يمكن تعريفه بسهولة. فالكلام عن”اللغات” يفترض وجود منظومات من القواعد النحوية مكتفية بذاتها وكلمات، قائمة قبل وخارج الكلام، تشترك فيها جماعات من الناس اشتراكا تاما وتكون في متناول أي فرد من الجماعة، بحيث يستعملها بنفس الطريقة التي تتكلمها بها الجماعة. إلا أن اللغات لا توجد، بهذا المعنى، إلا في القواميس وكتب النحو، وبشكل غير تام. إننا نفكر في اللغات ككيانات مستقلة ومشتركة لأننا، تحديدا، اعتدنا على القواعد والقواميس، لأن خبرتنا الواعية مع اللغة (خبرات المدرسة، مثلا) تنحو إلى التركيز على ضروب الكتابة القياسية المبوبة في القواعد النحوية والقواميس. لاتمكننا ملاحظة اللغات ولا تمكننا دراستها بدون تكوين افتراض لا يتزعزع بأن حدوسنا الخاصة بشأن النحو والمعنى مطابقة تماما لتلك التي لدى أي شخص آخر يتكلم “نفس اللغة”. في الواقع إن الشيء الوحيد الذي تمكننا ملاحظته فعليا هو الخطاب. ذلك أن كل فرد يكون، على امتداد حياته، طائفة متميزة من التعميمات بناء على طائفة متميزة من الخبرات مع الخطاب، حول ما هي الإمكانيات المتاحة للتكيف مع العالم من خلال اللغة. المعرفة التي يمتلكها كل فرد حول اللغة هي معرفة متميزة، والتلفظات الفعلية لكل فرد متميزة هي الأخرى.
مصطلح “التفكير” يمكن أن يشير إلى مجموعة متنوعة من العمليات. فعدة دراسات لفرضيات سابر ورف أدخلت [ضمن هذه العمليات] الاستقبال البصري والذاكرة مفترضة أن الاستقبال البصري والذاكرة معادلان، بمعنى ما، لـ”التفكير”. فإذا كان لديك، على سبيل المثال، كلمة “أساسية” بسيطة و قصيرة تدل على لون، فهل يكون من الأسهل عليك تذكر رؤيتك ذلك اللون في جملة من المثيرات المباشرة؟. (Hardin and Maffi, 1996) . دراسات أخرى أدخلت عمليات التصنيف[ ضمن هذه العمليات]. فإذا ما طلبت من أناس القيام، على سبيل المثال، بفرز صور في مجموعات، فهل ستكون لهذه المجموعات علاقة بالطريقة التي تقسم بها لغتهم الأشياء؟. (Carrol and Casagrande,1958; Lucy,1992). و تقوم دراسات أخرى حول “اللغة و التفكير” بمعاملة “التفكير” باعتباره إجراء للعمليات المنطقية، مثل التوصل إلى النتيجة الصحيحة حول صدق قياس منطقي ما (Levi-Bruhl, 1926). كل هذه الطرق المتبعة في تعريف التفكير ناقصة و، إلى حد ما، غير دقيقة.
و يبدو أن ورف نفسه افترض وجود مستوى من “الواقع” مستقل عن اللغة، بحيث إنه على الرغم من أن “النظرة إلى العالم” التي ينظرها المرء قد تعتمد على خصائص لغته، فإن الواقع الموصوف بأنه فيزيائي يظل مستقلا عن اللغة. وهكذا يمكن لوجهات النظر إلى العالم أن تكون خاطئة، حسب ورف. فنحن نصف في الإنغليزية، مستخدمين المثال الذي أورده، البرميل الذي كان يحتوي على البنزين بأنه “فارغ” في حين أنه مازال (في” الواقع”) يحتوي على أبخرة شديدة الاحتراق، الأمر الذي قد يجعل الناطق باللغة الإنغليزية يقوم بارتكاب خطأ وخيم بإشعاله سيجارة جنب مثل هذا البرميل. الواقع نفسه، بالنسبة للفيلسوف المتحمس للنسبية، نسبي، ولا يمكننا أن نعرف، من وجهة نظر الفيلسوف المعتنق لمبدأ الأنانة(*)، ما إذا كنا نشارك أي شخص آخر أي شيء. وهكذا تتعلق صعوبة الإجابة على الأسئلة المتصلة بـ “اللغة، التفكير، والواقع” بالصعوبة في تحديد تعريف لأي من هذه المصطلحات.
إن طريقة التفكير حول العلاقة بين اللغة والعالم، التي يمكننا أن نتفادى من خلالها بعض هذه الصعوبات، هي التفكير في الخطاب بدلا من التفكير في اللغة: أي أن ندرس الحالات الفعلية للكلام والغناء والكتابة بدلا من دراسة تصور مثالي لمعرفة تؤهل الناس للغناء أو الكتابة. وبكلمات أخرى، فبدلا من أن نتساءل عن كيفية تأثير النحو والمفردات اللغوية في لغة ما على طرق تصور الناطقين بهذه اللغة للعالم، وتأثر النحو والمفردات اللغوية في تلك اللغة بهذا التصور، يمكننا التساؤل عن تأثير الأشياء التي يقوم بها الناس أثناء ما هم يتكلمون أو يغنون أو يكتبون في معرفتهم باللغة والعالم كما يعايشونه، والعكس. تأمل، على سبيل المثال، أول جملتين من قصة كاثرين مانسفيلد القصيرة “شمس و قمر” (1923):
“في الظهيرة جاءت الكراسي، عربة كبيرة متكاملة ممتلئة بكراس ذهبية صغيرة أرجلها في الهواء. بعد ذلك جاءت الزهور.”
اختارت مانسفيلد، مثل جميع كتاب القص fiction و مثل جميع المتكلمين والكتاب في جميع الحالات، خيارا واحدا من بين عدة خيارات. فمن بين إمكانات عدة للشق الأول من الجملة الأولى هناك، على سبيل المثال “سُلمت الكراسي”، “أحضروا الكراسي”، “أوصل الحمالون بعض الكراسي”، “جاء عدد من الناس مع مئة كرسي”. وبما أن هذا النوع من الأدب معد بحذق ومخطط بعناية، فإننا نتوقع أن أي اختيار يتخذه الكاتب إنما هو ذو مغزى (Pratt,1977) وليس مجرد خطأ أو أول نتيجة تم التوصل إليها من خلال عملية بحث ذهني سريع. في هذه الحالة يشجع اختيار مانسفيلد للجملتين الأوليين على التخمين بأن راوي القصة طفل صغير( وهذه الفرضية تتأكد في بقية القصة).
نصل إلى هذا الاستنتاج لأن أي اختيار نحوي تتخذه مانسفيلد هو اختيار متعلق بالعالم الذي تخلقه في القصة. أي اختيار نحوي يعكس عالم الراوي كما تتخيله مانسفيلد، وكل اختيار نحوي يخلق هذا العالم للقاريء. الاختيارات المتعلقة بتوصيف الأسماء، على سبيل المثال، تمثل صدى لطريقة الأطفال التي يندفعون بها عادة لتصنيف ووصف الأشياء، حسب الحجم (“عربة كبيرة متكاملة”) واللون (“كراس ذهبية صغيرة”). راو آخر راشد ربما كان سيُقدم في عالم هذه القصة، الاستقراطي المليء بالادعاء، كشخص يصنف الأشياء حسب الطراز أو الفترة: شخص راشد قد يتكلم، على سبيل المثال، عن “كراسي لويس الرابع عشر الجانبية” بدلا من “كراس ذهبية صغيرة”. تساعد الاختيارات المتعلقة بالترابط – كيفية عمل الروابط الدلالية semantic connections بين الجمل- على خلق عالم تجري فيه الوقائع واحدة بعد الآخرى، بدون علاقة منطقية واضحة تصل بينها (“بعد ذلك جاءت الزهور”). يبدو قصر الجملة الثانية وشدة مشابهتها لبداية الجملة الأولى (“جاءت الكراسي” “جاءت الزهور”) مثلما تورد الجمل في كتب الأطفال حيث يوجد عادة قدر كبير من التركيب المتوازي المشابه لهذا. فالقول “جاءت الكراسي” بدلا من واحد من البدائل الواردة أعلاه أو واحد من بدائل أخرى، يقدم الكراسي باعتبارها فاعلا للفعل “جاء”، وهذه الطريقة تستخدم عادة – و ليس حصرا- لإضفاء صفات الكائن الحي على الجمادات. إنها تقدم الكراسي كما لو أنها حضرت بمقتضى إرادتها الخاصة. هذا التعتيم على الفاعلية (من قام بالفعل أو يعد مسؤولا عنه) يخلق انطباعا بأن الراوي لا يعرف، أو لا يحتاج إلى أن يعرف، كيف يتم إنجاز مثل هذه المسائل. هذا النوع من اللغة “ليس تفاعليا “(Hodge and Kress,1993:43). و بعبارات أخرى، إنها[ لغة] تخلق عالما تجري فيه الوقائع بدلا من أن يتم التسبب في حدوثها. إنها تقدم نموذجا لا تحليليا “قبل- نظري” (Hodge andKress) لعالم يماثل ذلك الذي لدى الطفل. و أخيرا، يوحي تقديم الجمادات في الجملتين بوجود منظور طفولي: الكراسي مشخصة personified بـ “أرجلها في الهواء”. وباختصار، فهذا عالم تجري فيه الوقائع غير المترابطة لأسباب غير واضحة، ويحتوي على شخصيات شبه حية (الكراسي والزهور) التي من أبرز ملامحها الحجم واللون.
وهكذا نرى أن اختيارات مانسفيلد أكثر تعقيدا و امتلاء بالمعنى مما تبدو عليه للوهلة الأولى. فهي ذات نتائج عدة. إحدى هذه النتائج، كما سبقت الإشارة، أن كتاب القص مثل مانسفيلد يتعمدون خلق “وجهة نظر” أو أكثر، أو نظرات إلى العالم للرواة والشخصيات. وهم ينجزون ذلك بواسطة اختيار ما يقال وكذلك بواسطة اختيار الكيفية التي تقال بها الأشياء. إنهم، بهذا الشكل، يستخدمون اللغة لخلق عوالم متخيلة – التي يمكن أن يكون قد قصد منها أن تمرئي(**)، بمديات مختلفة، عالما لاخياليا، أو أكثر. شيء آخر، وهو أنه في أي وقت يتم فيه اتخاذ اختيار محدد يتم تسليط الضوء على أفضليات هذا الاختيار. بعبارات أخرى، استخدام أي عنصر نحوي في نص ما يجعله أكثر بروزا، و متاحا أكثر لاستخدامات أخرى، أو لاستخدام يختلف قليلا في نص آخر، وكل استخدام لاختيار ما يجعل مجمل البدائل الممكنة – الجدول النحوي grammatical paradigm- أكثر وضوحا. وبنفس الطريقة، التي يُخلق فيها عالم في الخطاب يصبح خلق ذلك العالم مجددا في خطاب لاحق أكثر سهولة. الاختيارات المحددة يمكنها أن تنوب عن جملة طرق في النظر إلى الأشياء، جملة أشكال من الكينونة، وهذه الطرق في النظر إلى الأشياء يمكن لها أن تبدو طبيعية، لا منافس لها، وصائبة.
هناك مقاربتان مهمتان للخطاب والعالم ركزتا على بعدين مختلفين لهذه العملية. تركز إحداهما، بسبب أصولها المرتبطة بتنظيرات مدرسة براغ في اللغة والأدب، على الطرق التي بواسطتها يخلق الخطاب واللغة، الوقائع الكلامية المحددة وإعادة استخدام “طرق التكلم”، أحدهما الآخر ويعززه. وتركز الأخرى، بسبب أصولها المرتبطة بالنظرية الاجتماعية لدى الماركسية الجديدة وفوكو، على الطرق التي يخلق بها الخطاب و”الخطابات” الآيديولوجية، أحدهما الآخر و يعززه. وفي كلا المقاربتين يُظهر الانتباه إلى التفاصيل المتصلة بالخطاب كيف تترسب الجوانب اللامتغيرة والثابتة نسبيا من اللغة والواقع الاجتماعي على نحو مستمر لتغذي الخطاب وأنواعا أخرى من النشاط الاجتماعي، في عملية دائرية متواصلة.
(*) الأنانة solipcism نظرية فلسفية ترى أنه لا وجود لغير الذات.
(**) نسبة إلى المرآة.