الحرية غريزة وتقنينها ثقافة
سالم العوكلي
“إذا كان الموت هنا، فهو يأتي ثانياً على الدوام. الحرية، دوماً، أولى”.. يانيس ريتسوس
منذ أن نظر الإنسان إلى الأعلى باحثاً عن معنى لوجوده، كانت على الأرض تتبلور إحدى غرائزه المتمثلة في حب التسلط، والتي ما انفكت مع ترقي الإنسان تقايض سؤال المعنى باستمداد أجوبة شرعيتها من السماء الغامضة، منتجة ذاك الجدل الأسطوري بين الإنسان والآلهة، الآلهة المسؤولة عن عديد القوى الغامضة والإنسان الساعي إلى فهم الطبيعة وظواهرها، ولم يخلُ هذا الجدل من حالات الحلول المتبادل للوصول إلى الإنسان المزيج القوي، الذي يجمع بين نصفه الإلهي ونصفه الأرضي المتسلط بفعل هذه الشحنة الغيبية، وليغدو على مر التاريخ هذا العَقْد الأسطوري منهج العلاقة بين الحاكم المدعوم من الإله، والمحكوم الذي تتحول مواطنته إلى نوع من العبادة والتسليم، من الأنبياء إلى الملوك والأباطرة أنصاف الآلهة، إلى الخلفاء والأئمة والحاكمين بأمر الله، إلى أصحاب الجلالة والقادة والزعماء وولاة الأمور الواجبة طاعتهم، وقد أفضى هذا الإرث التاريخي إلى واقع مكرس من التسليم لدى العامة تجاه أنواع السلطة المختلفة فيما يسمى (مديونية المعنى) التي تعني في حدها الأدنى القبول الإرادي بطاعة من يملك القدرة لإشباع الرغبة في بلوغ معنى، سواء أكانت هذه القدرة متأتية من صلة بالسماء، أو عن طريق القوة، أو الحكمة، أو وراثية، تقابلها رغبة مضمرة للانصياع في عزلة من المعرفة، وهي المقايضة التي بنيت عليها الإمبراطوريات والدكتاتوريات المزمنة، أي بمعنى آخر أن تكون الاستجابة طبقاً لضرورة ذاتية، وليس لإكراه خارجي، ولفترات طويلة استمد الحكام مديونية المعنى من الدين أو الأيديولوجيا أو صلة الدم أو الثورات، لتكريس الإرادة العليا التي تجعل طاعة الحاكم جزءاً من طاعة الله، وبالتالي سيكون كل تمرد عن هذه السلطة نوعاً من الردة. ومن هنا كان سؤال الحرية السياسية محفوفاً بتوابع هذا الإرث التاريخي، الذي لوث بغموض السلطة ينابيع هواجس التحرر، على مدى التجربة الإنسانية في التعلم والترقي.
ثمة أسئلة كثيرة طالما راودت مفهوم الحرية، وطالما جابهت ثقل هذه المفردة التاريخي، والتي وصل نهم التداول معها إلى درجة تقترب من حشرها في حقل الميتافيزيقيا، أسئلة من قبيل: هل الحرية غريزة أم ثقافة أم مكتسب؟ أم هي اكتشافٌ تطور مع تطور الجنس البشري؟ هل كان الإنسان الأول الذي عاش طليقاً في غابات التعرف على العالم، يراوده هذا السؤال؟ أم اكتشفه مع إحساسه المتزايد بمضايقة المحيط له؟ هل الحرية مطلب بيولوجي يخص خلايا الجسد ومكونات الدماغ البشري ومتسرب في سيرة الجينوم الإنساني؟ أم هي نتاج معرفي وتاريخي رسمت خرائطه البراعم الأولى لمفهوم التسلط والزحام البشري؟ وبالتالي هل هذا السؤال حكر على الإنسان من دون باقي الكائنات؟ أليس ثمة حيوانات لم تروّض إلى الآن لسلطة الإنسان؟ وألا يوجد ضرب من الحيوانات الأليفة المروضة التي تتمرد على سادتها وتنطلق في أرض الله الواسعة كحيوانات برية؟ ألا توجد نباتات تتسلق الجدران من أجل أن ترى الضوء كي تتنفس وتنمو؟ .. أسئلة كثيرة من شأنها أن تنقلنا إلى ملحمة من السجال الذي بقدر ما يُختلف في تفاصيله، بقدر ما يفضي إلى نتيجة واحدة؛ وهي أن الحرية بكل تجلياتها مطلب حيوي لم يخفت طيلة التاريخ.
غير أن المدخل الذي يعنيني في هذه المقاربة هو مفهومها عندما وجد الإنسان نفسه ضمن مجتمع تربطه به علائق حيوية، وفي الوقت نفسه لا يكف عن الصدام به وبتابوهاته المتعددة .. ومن هذا المنطلق ـ ورغم كل ما دفعه التاريخ البشري من تضحيات من أجل هذه القيمة ـ إلا أن المفهوم الجذري للتعامل مع هذا السؤال بدأ ضمن منجزات الحداثة التي مشت خطواتها الأولى على قدمين: الذاتانية وإطلاق الحريات، ومن يومها لم يكف الشغف الإنساني بتجذير هذه القيم، التي يبدو أنها بدأت تجد موقعاً لأقدامها ضمن عالم يتشكل من جديد في بوتقة من الصراعات الكبرى، التي ما انفكت تتشرب بضغط أخلاقي لم يهادن .. ومن هنا كان الشغف المتواصل بالحريات بقدر ما يجابه السلطات العنيفة المدججة، بقدر ما يحفر أنفاقه في البنية الاجتماعية، التي لا تقل عنفاً وإن كانت أقل إمكانيات..
أذكر أننا مجموعة من الأصدقاء كنا نصدر صحيفة الإفريقي في بداية التسعينيات، وكانت رؤيتنا المشتركة أن ننتهك الكثير من المسلمات، وأن نجعل هاجسها النقدي مثابراً، وفي تلك المرحلة كانت تراقبنا سلطة اجتماعية لا تقل ضغطاً عن السلطة السياسية، أو بمعنى آخر، كانت السلطة السياسية محددة وواضحة عبر مؤسسة هي رقابة المطبوعات التي يجب أن تمر عليها المطبوعة قبل الإصدار، وبعض الاستدعاءات الأمنية بعد الصدور كان يتكفل بها ختم هذه المؤسسة على النص الأصلي، وبالمقابل كانت السلطة الاجتماعية غير محددة الملامح، والتعامل معها يأتي بعد صدور الصحيفة أو الكتاب، وإن كان ثمة خيط يتسرب منها إلى مخ الكاتب أثناء الكتابة يجعله حذراً في كثير من الأشياء، لقد خرج بعض الأئمة على المنابر وهم يحملون الصحيفة ويصبون عليها اللعنات، مع أن المواضيع المؤثمة ليست دينية، لكنها اجتماعية، ذات غطاء أخلاقي بقناع ديني له علاقة بالستر، وبذريعة الستر قامت أضخم مؤسسة رقابية تجعل من الكشف وقول الحقيقة إثماً يحاسب عليه الإنسان.
إن المجتمع أو العقل الشعبي كثيراً ما يروق له تكسير التابو السياسي، ويطرب للسخرية منه والتفكه عليه، لكنه لا يفتأ يورم التابو الديني والجنسي. وبالمقابل فالتابو السياسي كثيراً ما يصادر الآراء التي تهدده، بحجة القيم الاجتماعية والدينية، إذاً ثمة تواشج بين كل هذه التابوهات، التي لا يمكن الفصل بينها في طرح سؤال الحرية، بل وثمة توظيف متبادل وأقنعة تنتقل من وجه إلى وجه، وباعتبار السلطة الاجتماعية هي الأقدم والأكثر توزيعاً أفقياً والأعمق غموضاً فيما يخص مصادرها، وباعتبارها سلطة دون مؤسسات، فإنني أتساءل: هل يمكن لحرية سياسية أن تتحقق دون حرية اجتماعية؟
لكن ثمة سؤال آخر يفرض نفسه: إذا كان للمجتمع المعني يحمل هذا الثقل السلطوي تجاه مفهوم الحرية، أو بالأحرى وفي أضعف الأحوال هو مؤمن بالحرية المشروطة، فمن بحوزته هذا السؤال؟ لاشك أن التأسيس لإطلاق الحريات دون شروط كان عملاً نخبوياً قادته النخب المثقفة، وما تدافع الأجساد في الشوارع، وما أنقاض الباستيل إلا تتويجاً شعبياً لحمْلة هذه النخب، التي لا تلبث أن ترى أن الشروط أو الاستثناءات ـ التي يضعها التابو الاجتماعي من جديد ـ تحمل مقتل الحرية في داخلها. تعرف جيداً أن لهذا المطلب أثمانه، لكنها ترى أن الثمن الذي يدفع في براح الحرية لا يقارن أبداً بالأثمان التي تدفع في عتمة الطغيان، وإن الخسائر في الهواء الطلق لا تقارن أيضاً بالخسائر في ظلام السجون ..