الجيش حقيقة رغم كل محاولات التشويش الإخوانية
سالم العوكلي
لبنان كان واجهة العرب الديمقراطية ونافذتهم على الغرب كما يقولون، لكن هذا المظهر الديمقراطي كان به خلل خطير، وهو وجود العشرات من الميليشيات المسلحة في قلب هذا المظهر الديمقراطي، مع جيش وطني ضعيف لم يستطع هو والأجهزة الأمنية أن يحتكر السلاح، وبسبب هذه الخلل البنيوي في الدولة كانت الدولة المدنية والديمقراطية تمارَس فوق برميل بارود إلى أن انفجر مؤدياً إلى حرب أهلية استمرت عقدا ونصف، وكل ميليشيا فتحت بابا في حدود لبنان تتلقى منه الدعم من دولة أجنبية، فكانت فرنسا وإيران وإسرائيل والسعودية وسوريا والعراق وليبيا وغيرها أطرافا في هذه الحرب التي أصبح فيها القتل على الهوية. اجتاحت إسرائيل لبنان عبر تواطؤ الميليشيا التابعة لها، واجتاحت سوريا لبنان عبر تواطؤ الميليشيا التابعة لها، واجتاحت إيران لبنان عبر الميليشيا التابعة لها، وجاء مؤتمر الطائف ليعيد الهدوء للبنان فوق برميل البارود، لتمر بفراغ سياسي وأزمة اقتصادية حادة وخوف دائم من عودة الحرب، إلى أن خرج الشعب في الشوارع يطالب بإسقاط النظام. وهو نظام الدولة المدنية الديمقراطية التي تتداول فيها السلطة سلمياً وتمارس فيه حرية التعبير، لكنه نظام حافظ عبر اتفاق الطائف ودستوره الطائفي على الميليشيات وسلاحها، وسيظل لبنان يعيش هذه الأزمات والخوف من الحرب الأهلية والاغتيالات السياسية طالما السلاح والعنف غير محتكرين للمؤسسات الرسمية، وطالما الدولة تتقاسمها الميليشيات.
العراق نموذج آخر، ما بعد سقوط النظام السابق، حيث فُكك الجيش، وتغولت الميليشيات بالعشرات، ودُججت بالسلاح، وأصبحت ممثلة داخل البرلمان وفي الحكومات المتعاقبة، وعندما أعاد الأمريكان بناء الجيش أصبح ضعيفا أمام هذه الميليشيات التي فتحت حدود العراق لتدفق السلاح والمقاتلين من دول أجنبية، وخرج الشعب مطالبا بإسقاط نظام العراق الديمقراطي الجديد ودولته المدنية التي تعمل فوق برميل من البارود، ولم يستطع الجيش ولا القوى الأمنية الشرعية أن تحتكر السلاح، والنتيجة قتل المتظاهرين السلميين بالمئات واغتيال يومي لنشطاء مدنيين وناشطات ومثقفين عُزّل في الدولة المدنية الدستورية التي تتداول فيها السلطة لكن في وجود الميليشيات التي تتحكم في قرارات السلطة التشريعية والتنفيذية وفي المؤسسة القضائية. والحديث عن اليمن مشابه تماما.
هذا هو السيناريو الذي يريده الساعون لحل الأزمة في ليبيا عبر إدماج الميليشيات في الحل وفي مستقبل الدولة. ستكون لنا مؤسسات بظاهر ديمقراطي، أو ما يشبه الدولة المدنية التي تبنى فوق برميل من البارود، وعبر ميليشيات مقننة ومشرعنة ستفتح أبوابا للتدخل الخارجي في ليبيا كلما تضاربت مصالحها، أو اختل توازنها. وإن لم يحتكر الجيش والقوى الأمنية السلاح ويحفظ حدود الدولة، فإن إطلاق النار سيستمر، والاغتيالات ستستمر، وقرارات وقف إطلاق النار ستستمر، والمؤتمرات المنعقدة في عواصم العالم بشأن ليبيا ستستمر، وجلسات مجلس الأمن بشأن ليبيا ستستمر، وما أعتقد أن معظم المؤتمرات الدولية التي عقدت بشأن ليبيا إلا مؤتمر طائف جديد، أو نسخة مترجمة ودولية من اتفاق الصخيرات؛ الذي وضع ليبيا في أتون الحرب الأهلية ونشر فيها الجماعات الإرهابية حين شرعن الميليشيات وأذرعها السياسية وهمش الجيش والقوى الأمنية.
فيما يتعلق بالحراك الشعبي الذي يطالب بإسقاط رموز الفساد فثمة نموذجان حديثان (الجزائر والسودان) واللتان تحالف فيهما الحراك الشعبي مع الجيش (رغم كل التوجس بينهما) واستطاعا أن يسقطا كل أو بعض الطبقة السياسية الحاكمة، وأن يضعا رموزا كبيرة للفساد خلف القضبان. هذا هو المطلب الأساسي لحراك (همة شباب ليبيا) لأنه يدرك أن السبب الرئيسي لمعاناة المواطنين اليومية هو تفشي الفساد، وهو فساد مدجج بالسلاح ومحمي بميليشيات وعصابات مسلحة لا يمكن القضاء عليه إلا بتحالف بين القوات المسلحة الرسمية والحراك الشعبي الضاغط ومن شأن القوات المسلحة القوية أن تتيح بيئة لعمل الأجهزة الشرطية والقضائية.
إن المدافعين عن واقع الميليشيات يبررون ذلك بكون ليبيا ليس فيها جيش، وهذه مقولة روجتها جماعة الإخوان عبر وسائل إعلامها أو الوسائل الإعلامية العربية الداعمة لها، وعبر جيوشها الإلكترونية لدرجة أن الكثيرين تبنوا هذا الرأي، بما فيهم مثقفون كتبوا عن ذلك، مع أنهم انزعجوا حين كتب مرة أحد أعضاء المؤتمر الوطني السابق أن ليبيا ليس فيها ثقافة ولا مثقفون، وحين يقال إن ليبيا ليس فيها جيش فهذا رأي يزعج الآلاف من الضباط المحترفين وعشرات الآلاف من ضباط الصف والجنود المدربين والذين يحملون رتباً ويتقاضون مرتباتهم من ميزانية القوات المسلحة ولا عمل لهم غير عملهم في الجيش، قد يكون الواقع الثقافي في ليبيا والمثقفون يعانون من قصور ومشاكل كثيرة لكن لا يمكن أن نقول أن لا ثقافة ولا مثقفين في ليبيا، وبالمثل قد يكون الجيش الليبي يعاني وبه مشاكل ولكن لا يمكن أن نقول بجرة قلم إخوانية أن ليبيا ليس فيها جيش، خصوصا أننا نعرف أن جماعة الأخوان التي روجت هذه الخديعة تعرف أن الجيوش ضد مشروعها وبالتحديد مشروعها الأيديلوجي المسلح الذي لا يمكن أن تتصدى له إلا الجيوش باعتبار القوى السياسية الأخرى عزلاء وصراعها يعتمد فقط على صندوق الانتخابات وهذا ما أدى إلى أن يختفي تحالف القوى الوطنية الذي فاز بأول انتخابات في ليبيا بعد فبراير من المشهد حين أصبحت لغة السلاح هي المهيمنة، وحين أصبح للإسلام السياسي بكل أنواعه وتناقضاته أذرعا مسلحة تتلقى دعما قويا من الدول التي تدعم هذه الأيديولوجيا (تركيا وقطر).
وهنا يبرز السؤال المبدئي: هل في ليبيا قوات مسلحة أو جيش أو غيرها من تسميات الجسم الذي يتشكل من مختصين في العلوم العسكرية ومن أسلحة مختلفة ومن تراتبية في الأوامر … إلخ؟ . وباختصار أقول نعم هناك جيش في ليبيا وحكايته كالتالي:
الجيش الليبي، أو القوات المسلحة، تملك بنية تحتية هائلة من آلاف المعسكرات والمقرات والدشم وغرف العمليات تحت الأرض والمطارات العسكرية منتشرة في كل أنحاء ليبيا، وحتى العام 2011 كانت كل هذه المقرات مأهولة بعسكريين ليبيين من كل الرتب، فأين اختفى معظم هؤلاء وما الذي حدث؟. منذ بداية الحراك أنضم الكثير من العسكريين للانتفاضة، ودافع بعضهم عن النظام، والبعض انسحب تماما والتحق بقبيلته أو عشيرته وقبعوا في بيوتهم، وفي الوقت الذي كان يُنتظر من المؤتمر الوطني أن يعيد هيكلة هذه المؤسسة وإدماجها في العمل الوطني، صدر قانون العزل السياسي وأحيل أهم الضباط الحري بهم إعادة بناء المؤسسة العسكرية إلى التقاعد، ولم يتوقف الأمر عند هذه الإجراءات القانونية، لكن تبعتها إجراءات وجودية عبر التصفية المباشرة للعسكريين ورجال الشرطة من كل الرتب والأعمار، حيث وصل عدد المغتالين في بنغازي وضواحيها إلى أكثر من 500 عسكري، خلال 5 شهور فقط، عندما كانت قوة درع ليبيا التابعة لجماعة الإخوان وأنصار الشريعة والقاعدة هم المسيطرون، وفي قلب هذه الدماء انبثقت معركة الكرامة التي كانت في البداية دفاعا عن كرامة العسكريين الذين استهدفوا حتى وهم قابعون في بيوتهم أو متقاعدون (وسينصف التاريخ يوما هذه المعركة التي يحاول البعض التشويش عليها و تشويهها) ولأن هذه المعركة بدأت ببضعة مئات اضطروا للتلاحم مع الشباب الداعم في المدن والقبائل في الشرق وحتى المجموعة السلفية التي كانت مستهدفة من هذه الجماعات الإرهابية، ومع الوقت بدأ عناصر الجيش القدماء يلتحقون بعملهم، وبدأ تخريج دفعات جديدة تابعة للجيش من جميع الأسلحة، وحين وصل الجيش إلى الجنوب الليبي التحق به المئات من العسكريين الذين كانوا لا يستطيعون الخروج من بيوتهم. في خضم كل هذا لم تحدث معركة كرامة مشابهة للعسكريين في مدن وقرى شمال غرب ليبيا نتيجة تمركز الجماعات المسلحة فيها بقوة، فقبع الكثير منهم داخل بيوتهم، وبعضهم نزح خارج ليبيا، وكثيرون منهم التحقوا بالجيش في الشرق الليبي وشاركوا في الحرب على الجماعات الإرهابية التي كانت مسيطرة حتى العام 2014 على معظم الشرق، ولم تكن في مواجهتهم سوى القوات الخاصة (الصاعقة) التي انضمت إلى حراك فبراير من بدايته وظلت قائمة على الأرض ومتلاحمة ومحافظة على مقرها، ودفعت ثمنا غاليا من خيرة عسكرييها ، والكثير منهم عبر الاغتيال. وأنا هنا لا أتحدث عن أشخاص ولكن عن مؤسسة تحوي عشرات الألوف من العسكريين الليبيين ذوي العقيدة الوطنية والمنضوين تحت قوانين وأوامر هذه المؤسسة، فهي قائمة وقابلة للتطوير والتحسين والدسترة مثلها مثل كل القطاعات الليبية التي تعاني لكنها موجودة وبنيتها التحتية موجودة وقوتها البشرية موجودة.
الجيش الليبي حقيقة على الأرض، وفقط يحتاج إلى توحيد وإعادة هيكلة وقرار بإيقاف العقوبات على ليبيا التي طالته، لكن الميليشيات العاملة ضمن مخطط جماعة الإخوان المعادين بطبيعتهم للجيوش ستستمر في عرقلة كل هذا حتى لا تقوم للجيش قائمة (وهذا هو السبب في عرقلة جهود توحيد المؤسسة العسكرية التي احتضنتها مصر)، حيث كانت تركيا وقطر حريصة على تقويضها وحريصة على أن تكون الميليشيات التابعة لها موازية أو أقوى من الجيش، وتدخلها الأخير المباشر يأتي ضمن هذا الهدف.
أما كل ما يحكى عنه من انتخابات تشريعية أو رئاسية، أو تشكيل مجلس رئاسي جديد، أو حكومة توافق وطنية، فلا تعني شيئا ولا يمكنها أن تمارس مهامها إلا عبر احتكار المؤسسات العسكرية للسلاح وسيطرتها على كل التراب الليبي، والأهم من ذلك التركيز على دورها في حماية الحدود والمؤسسات الحيوية والاستحقاقات السياسية المقبلة بما فيها الانتخابات دون أن تتدخل في السياسة مباشرة، رغم أن فشل الطبقة السياسية وانتشار الفساد دائما ما يجعل الشعوب تلوذ بجيوشها.