“الجماهير” بطبيعتها مجنونة
سالم العوكلي
كتاب “سيكولوجية الجماهير” لعالم الاجتماع الفرنسي .جوستاف لوبان .
لا أعرف كم مرة قرأت هذا الكتاب الذي صدر قبل أكثر من قرن، لأنه شكل لي مرجعا مهما لمحاولة فهم ما كان يحدث في جماهيرية القذافي في العقود الماضية، وكان مرارا يقترح إجابات وجيهة عن أسئلة شائكة تلاحقني ، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة المَرَضية، المركبة والغريبة، بين الطاغية وضحاياه، وهذه الشيزوفرينيا الشعبية، التي كنت أراها واضحة في عرق من يهتفون للقذافي حين يرونه، وفي حسرة ما يكيلونه له من هجاء حين يكونون خارج الحشد، في غلواء الشعراء الذين يدبجون فيه القصائد الشعبية والفصيحة بينما في سهراتهم الخاصة يصبون عليه اللعنات، في استسلام بعض الكتاب والمؤرخين والباحثين الكبار الذين سخروا عقولهم ووقتهم وأقلامهم لبرهنة ما يهترس به من أفكار وتحليلات في خطبه، بينما في قرارة أنفسهم يصفونه بالمجنون والأفاق، في مداهنة بعض المطربين والملحنين الذين سخروا مواهبهم وأنبل الفنون (الموسيقى) لتأليه من يعتبرونه في خلواتهم جلادهم ومقوض مشاريعهم وعدو الفن العتيد.
هذه وقائع وحالات فصام معلنة كنت أعايشها مستهولاً مقدار الطاقة التي يحتاجها نفاق بهذه الكثافة، بل أحيانا اعتبر أن الأمر ليس نفاقا بالمعنى الحرفي، لكنه حالة هوس هستيري بكاريزما المستبد تنشط هرمونيا حين تتجسد الهالة بجبروتها أمام المهووس، فيصبح كأنه مشاهد يتابع فوق خشبة المسرح إحدى شخصيات شكسبير الشريرة، مأخوذاً بالدور وكأن فضاء (المنصة/ الرُكح) هي مساحة الشر الرمزي الذي ينتهي بنهاية العرض . فهل ثمة فن ما يكمن في هذا العلاقة الغريبة وهذا التقمص الطقسي الذي لا يفرق بين الواقع وتمثيله، بين المهرج والطاغية الذي يمشي على ركام من الجماجم؟.
شعراء كتبوا قصائد في مدح القذافي، أو جمعوا مجلدات للقصائد التي تمدحه، وحين نلتقي بأحدهم يعبر بكل حرقة عن تذمره من ضياع البلد ومن فقدان حرية التعبير ومن الطغيان والفساد، ولا يشبه أحدهم شاعر ميلان كونديرا “جاروميل” في روايته “الحياة هي في مكان” آخر” لأن كونديرا يقدم شاعرا موهوباً وكبيرا، مقتنعا كل القناعة برؤية من ينخرط في مشروعه، ويلتقي مع الزعيم المستبد في غنائيته الثورية التي تعمي بصره عن الواقع . لم يكن شعراؤنا بهذا العمق أو التعقيد الذي استوحاه كونديرا من شخصية الشاعر الكبير ،مايكوفسكي، وعلاقته الملتبسة بستالين، وربما من هوس الشاعر الكبير ،إزراباوند، بمشروع موسيليني الفاشي، وربما من شاعر (بالتأكيد لا يعرفه) مثل محمد الفيتوري، صاحب الموهبة الكبيرة الذي كان يتنقل من عاصمة عربية إلى أخرى ويمدح طغاتها لدرجة التأليه.
هذا سلوك أفراد يُسخِّرون مواهبهم الجمالية في مديح القبح، لكن جوستاف لوبون يستخدم فتوحات علم النفس الجماعي، أو ما سماه مؤسسه السويسري، كارل يونغ “اللاوعي الجماعي” كتطوير للتحليل الفرويدي المتعلق بالأفراد، باعتبار أن سلوك الفرد ضمن جماعة عادة ما يتعارض مع سلوكه منفردا، وفق تناغم الأفكار المشتركة أو انتقال عدوى الفكرة بين الجموع، فالفرد “ما أن ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقا” كما يقول لوبون، تمهيدا لأطروحته المتعلقة باستغلال السلطة لهذه السمة واستخدامها في التحكم في الحشود. وهو إذ يأتي بعد أطروحة، مكيافيلي، في كتابه الشهير “الأمير” الذي تحول إلى كاتالوج للطغاة خلال القرون المنصرمة، حيث صوّر مكيافيلي الدين “بأنه “أداة ملكية” أي وسيلة يمكن بها السيطرة على الشعب وتوحيده باسم العقيدة الوحيدة. فالدين في نظر مكيافيلي هو دين للدولة التي يجب أن تستغله لأغراض سياسية بحتة واعتبارية”. بينما يذهب غوستاف لوبون إلى تحليل قوى اللاوعي الجماعي التي تناسب عصر ما بعد الجمهورية، ومع أنه يطرح نظريته من منطلق تحليل تصرفات الجموع التي غالبا لا نفهمها حيال السلطة التي يمقتونها منفردين ويهتفون لها مجتمعين “علم النفس الجماعي يفيدنا ويضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء، والأسباب التي تدفعنا للانخراط في جمهور ما، والتحمس أشد الحماس للزعيم، فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة، وربما يجعلنا ذلك أكثر حيطة وحذراً في الانبطاح امام زعيم جديد قد يظهر” فإنه في الواقع على غرار مكيافيلي يضع الوصفة المناسبة لطغاة ما بعد عصر الثورات الجماهيرية لإدارة الحشود والتحكم فيها، وهذا ما جعل الكتاب إنجيل موسيليني ، وما جعل القذافي يجيب :”كتاب الأمير لمكيافيلي” حين سأله صحفي إنجليزي في السبعينيات عن كتابه المفضل، وفي إطار التجهيز لدكتاتوريته الشعبوية فتك القذافي بالنخبة الناقدة، بين قتل وسجن ومنفى، وانفرد بالجماهير التي تقاد بغرائزها، أو مثلما قال هتلر، سيد التلاعب بالحشود: “لكي أحصل على الموافقة أمام جمهور المستمعين أتوجه إلى أغباهم وإلى أسفل ما فيه الغدد؛ الدمعية أو الجنسية، وأربح دائماً ، أما الأقلية الناقدة فأنا أتعهد بهم بطريقة أخرى”.
وبدون تعليق سأورد بعض المقتطفات من كتاب “سيكولوجية الجماهير” التي تجعلنا نفهم ما حدث في العقود الماضية، وما يحدث الآن وبعد فبراير، من هوس جديد بالبحث عن الزعيم، وبالهتاف والتصفيق وحمل الصور وتدبيج الشعر والأناشيد، أو بالحنين إلى زمن القذافي الذي مازالت جراح شعبه تنزف، بل أن أسطورة العبرة الفرعونية جعلته يحتفظ بجثث ضحاياه في الثلاجات لسنين طويلة.
” كما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي أو الطبيب الذي يجعل شخصا ما يغطس في النوم، فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القائد الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها .. و في مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبدأ بتنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة .. فالقائد الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير و يسيطر عليها”.
” الجماهير مجنونة بطبيعتها .. فالجماهير التي تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل، أو لفريق كرة القدم الذي تؤيده، تعيش لحظة هلوسة و جنون .. والجماهير المهتاجة التي تهجم على شخص لكي تذبحه دون أن تتأكد من أنه المذنب هي مجنونة أيضا .. فإذا ما أحبت الجماهير مذهباً ما أو زعيماً ما، تبعته حتى الموت، كما فعل اليهود مع نبيهم، والمسيحيون المتعصبون وراء رهبانهم، والمسلمون وراء شيوخهم .. والجماهير اليوم تحرق ما كانت قد عبدته بالأمس و تغير أفكارها كما تغير أثوابها”.
” إن الجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل .. وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة والعمل، والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جداً .. والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها أمام أعيننا اليوم سوف تكتسب قريبا نفس قوة العقائد القديمة : أي القوة الطغيانية والمتسلطة التي لا تقبل أي مناقشة أو اعتراض”.
استخدام لوبون المكثف لمفردة الجماهير هو ما أوحى للقذافي بفكرة عصر الجماهير، التي أراد لها أن تتجسد فقط في الحشود التي تملأ الميادين لتستمع إلى خطبه أو عبر القبائل التي تبايعه، وليس في أحزاب أو منظمات مدنية أو نقابات، والمفارق أن الميادين المحتشدة هي التي بدأت التمرد عليه.
وحين أتساءل كيف إن الجماهير التي أدارها القذافي عقودا لصالحه هي نفسها التي خرجت تشتمه بأقذع الشتائم إلى أن سحبته من ماسورة تصريف مياه، وهي نفسها الآن التي تبحث عن قذافي آخر . أجد الإجابة في هذه الاقتباسات النابعة من علم النفس الجماعي. ولكن هل ثمة علاج لمثل هذا المرض المزمن؟ وهل بالإمكان معالجة حالة مراوغة لا تتجسد إلا في حالات اللاوعي الجماعي، وفي الهيجان الخارج عن السيطرة ؟. يبدو أن العلاج هو في مكان آخر، أو زمن آخر.