التلوث السمعي.. قضية تربية
المهدي كاجيجي
عندما تزوجت في نهاية الستينات من القرن الماضي، سكنت في عمارة في شارع بيروت خلف ميدان الجزائر. المالك وقتها كان يهوديا ليبيا اسمه ” جازيسكي “. كان بأسفل العمارة يوجد أجمل وأشهر محلات المواد المنزلية والكهربائية (سالم شوب) لصاحبه السيد سالم بدروش رحمه الله ، يقابله (جيلاطي ديمتري).
بعد غروب الشمس كان الهدوء يشمل المكان بالكامل. كان من جيراننا وقتها عراقي يعمل بمكتب الطيران السويسري ومتزوج من سيدة يونانية من مواليد الاسكندرية، وقعت منذ وصولها طرابلس في هوى المدينة، ورفض الزوج كل الترقيات للانتقال، تحقيقا لرغبتها في البقاء. كان جارا دمث الخلق سلس الحديث، وكانت هي سيدة لطيفة المعشر رقيقة تتكلم همسا.
سقط النظام الملكي وفي الذكرى الأولى لثورة الفاتح علقت مكبرات الصوت في ميدان الجزائر، احتفالا بالمناسبة. انطلقت الأناشيد والأغاني والمرشات العسكرية بم بم بم، تحدث اهتزازاً متواصلاً في النوافذ الزجاجية المحيطة بالميدان. ولسوء الحظ كانت غرفة نوم السيدة الفاضلة هي المستقبل المباشر على مدار الأربع والعشرين ساعة.
لن أنسى ما حييت هذا المشهد، وهو عندما كنت عائدا من طباعة الجريدة في الساعات الأولى من الفجر، وعلى سلم العمارة جلست السيدة الفاضلة، في وضع قرفصاء ، رابطة رأسها بقطعة قماش ممزقة، جاحظة العينين، تئن بصوت مكتوم، يحيط بها الزوج والأبناء وهي في حالة انهيار عصبي كامل. عندما شاهدتني قفزت على يدي تقبلهما وتصرخ بصوت هستيري: أبوس إيدك سيد مهدي عايزه أنام.. ارحمني عايزه أنام.. كلّم حد يرحمني ويقفل المزيكة، نفسي أنام أنام أنام.
شعرت وقتها بخجل وإحباط لضعف وقلة حيلتي، فأنا لا أستطيع أن أفعل لها شيئا أمام هذا التخلف. منظر لن أنساه ما حييت. في الساعات الأولي من الصباح انهارت السيدة التعيسة ونقلوها إلى مستشفي قرقارش للأمراض العقلية. أيّام بعدها تركت العائلة ليبيا، ولم نعرف بعدها ما حل بهم.
قضية أجيال فقدت التربية
مضي ما يقارب نصف قرن على هذه الواقعة. أتذكرها كلما مررت بميدان الجزائر، أو استمعت إلى الأناشيد والمرشات العسكرية المنطلقة من مكبرات الصوت في الشوارع. ذكرني بها صوت تبادل نار الأسلحة الثقيلة بين الميليشيات المتصارعة. أو فرقعات “خط ولوح” التي ابتلينا بها بعد فبراير المجيد وخفت بعد الإفلاس العام وندرة السيولة. أتذكرها بمرور السيارات تحت نافذتي في منتصف الليل، مطلقة أصوات المنبهات المزعجة، والموسيقى الصاخبة المنطلقة من راديو السيارة بأعلى صوت. أتذكرها عندما ترتفع أصوات الفتية المتجمعين تحت نافذتي في منتصف الليل، وتبادلهم الألفاظ البذيئة. أتذكرها من خلال صوت المولدات المتواصل في الشوارع، وأسوأها الصادر من بيت الجار الجنب الذي يفقدك عقلك وجارك معا.
تذكرت السيدة أمس وطلبت لها الرحمة، ولنا المغفرة بما فعلناه بها، وما نفعله بأنفسنا الآن، وذلك عندما قرأت على صفحة القائدة الكشفية والخبيرة القضائية فيروز يوسف القنبور ما كتبته تقول: (هل سنكمل حياتنا بين أصوات المكيفات والمولدات والتلفزيونات ورنات التليفونات والموبايلات، مع وجيج الغسالات والهوفرات في المنازل وضجيج السيارات في الشارع مع توافر الألفاظ النابية والعبارات السيئة والمصطلحات الرديئة المتناثرة !!! لو انتبهتم لوجدتم أن نسبة التلوث السمعي عالية جداً لا حدود لها مافيش هدوء أبداً).
وأقول لها للأسف يا ابنتي لن يسمعك أحد، فالقضية أجيال فقدت التربية، وفقدت الإحساس بالآخر، وشعب تبلد.