التلصص وفنون الوشاية.. تسقط دولة الرعب
سعد القرش
بعد توسل تنظيم داعش بوسائل ووسائط متقدمة في استعراض جرائمه الدامية، تنفيذا وتوثيقا، انطلقت السخريات من تنظيم القاعدة وذكريات “الإرهاب الوسطي الجميل”.
هذا المسار الإرهابي الصاعد يوازي تطورا غير أخلاقي في سلوك وشاة وكتبة تقارير كانوا في السابق يخجلون، ولا تنكشف صلاتهم الخفية بأجهزة الأمن إلا بوفاتهم أو تجاوزهم لأدوار المماليك، ثم أصبحوا يفخرون بهذا الدور، ويتفانون في إظهار كفاءتهم، في مرحلتي الوشاية التحريضية والشماتة بالضحايا قبل أن توجه إليهم النيابة اتهاما.
في بدايات سبعينات القرن الماضي لم يتردد أحمد بهاءالدين في إبداء غضبه إلى وزير الداخلية ممدوح سالم من افتراءات صحافيين وشاة ينقصهم الصدق، ولا يعنيهم إلا أن يكون الحصاد وفيرا، فأخبره الوزير بأن هذا الصنف هو المتاح “دُلّني على شخص محترم يقبل هذا العمل، ولن أتردد في الاستعانة به”.
واستمر ذلك الحال، فلا رضي كائن “محترم” بهذا الدور، ولا كفت الأجهزة الأمنية والقضائية عن التعامل بجدية مع الوشايات، والأدهى أن يكون هذا التعامل تحت وطأة إلحاح الوشاة وإحراجهم للأجهزة؛ لكي لا تبدو في حالة تقصير عن أداء مهامها.
في كلية الإعلام بجامعة القاهرة تعلمنا ألا نخلط بين الإعلام والإعلان، فيحظر على الصحافي جلب إعلان ولو غير صريح كأن يكتب شيئا لإغراء معلن. ومن تلك الدروس أيضا ألا يعمل الصحافي مع جهاز أمني أو استخباراتي؛ لأنه مؤتمن على مصادر معلوماته، ولا تملك قوة على إجباره على الإفصاح عن مصادره، أما عمله مع هذه الأجهزة فخيانة للمهنة، وإذا اختار التعاون مع هذه الأجهزة فليترك مهنته ويتفرغ للعمل بالأمن، فلا يعقل أن تكون الصحافة قناعا لعمل آخر.
في مراحل قوة الدولة تكون لكلٍ مهمته، فينشغل رجل الأمن بالأمن، والطبيب بالطب والصحافي بالصحافة والمحامي بالمحاماة. وفي أزمنة الفتنة والهوس الديني والوطني يسارع الكثيرون إلى النفاق، فيتنافس في برنامج تلفزيوني محام وصحافي وبرلماني ومذيع على قذف مواطن بالعمالة، ويتبارون في بلوغ أعلى سقف للإدانة، باتهامه بالتواطؤ مع جماعة إرهابية، بحجة ظهوره في فضائية إخوانية، وربما لا تجد أجهزة الأمن في الكلام التلفزيوني ذريعة للإدانة، فتنقب في الأضابير عن مخالفة قديمة، حقيقية أو مفتعلة، وتنفذها بهمة تؤكد ضعفها، مثلما استأسدت قبل أيام على الصحافي سليمان الحكيم وهدمت بيته. وإذا حكم له القضاء بتعويض مادي، فلن يتحمله المحرضون وهادمو البيوت، وإنما الشعب المبتلى بهذا النوع من البشر.
لا يعي المهووسون درسا تاريخيا يمكن إيجازه في ثلاث كلمات “دولة الوشاة تسقط”.
هذا الترتيب هو ترتيب أكثر دقة من صيغة “تسقط دولة الوشاة” التي قد توحي بأنها شعار للتظاهر، لا تقرير حالة عن أنظمة سياسية شغلها الأمن السياسي وملاحقة المعارضين، فانهارت بعد إشعال حروب أو افتعال أعداء.
لم تصمد دولة الرعب في عراق صدام حسين عند الاختبار، وكادت مصر في ذات المصير لولا أن أنقذتها هزيمة مريرة، فاعتذر جمال عبدالناصر في مجلس الأمة عن أداء “دولة المخابرات التي تغلغلت وانحرفت.. أعتبر أن هذه الدولة سقطت”.
السقوط يبدأ من الفـرد الساعي إليـه، ومن المحرّض.
في فيلم “عطر امرأة” يأمر مدير المدرسة الطالب الفقير شارلي، الذي يعمل مساعدا لقائد عسكري تقاعد بعد فقد بصره في الحرب، بالوشاية بزملاء له ارتكبوا خطأ، ويرفض الطالب ذلـك ويحال إلى لجنة تأديبية أشبه بمحكمة في مدرج كبير يليق بمدرسة تستقطب أبناء رجال النفوذ والأثرياء.
في المحاكمة، بحضور طلبة المدرسة، لا يتردد المدير في اتهام الطالب الصامت بالاحتيال والكذب، ويلوّح بحرمانه من الاستمرار في الدراسة، فينهض مرافقه الأعمى، الذي لم يفقد بصيرته، قائلا إن هذه اللجنة التأديبية “ليست سوى مهزلة”، ويتهم مـدير المدرسة ببنـاء “سفينة ليـس فيها سـوى الجرذان الوشـاة، سفينـة للخـونة، وإذا كنت تعتقد أنك تعد هؤلاء الوضيعين أن يصبحوا رجالا فعليك أن تفكر مليا، لأنك تغتال ضمير كل من تزعم هذه المدرسة أنها تبنيه… أنا هنا لأخبركم أن ضمير هذا الفتى حيّ، وهناك شخص عرض عليه أن يبيع ضميره، غير أن شارلي رفض العرض”.
ويواصل آل باتشينو أداء المشهد باقتدار، فيقول إنه رأى في الحرب أمثال هؤلاء الفتيان، وقد بترت أعضاؤهم “لكن لا شيء يضاهى رؤية روح مبتورة، لا يمكن تعويضها كما تفعل الأطراف الصناعية”، وإن النظام في هذه المدرسة يجعل الطلبة مسوخا، ويقتل ضمائرهم، وإن الطالب الفقير شارلي “لن يبيع ضميره لكي يشتري مستقبله”.
لا يتسامح المصريون مع الواشي ويضعونه في موضع قريب من القواد.
اختار الأميرالاي، “العميد حاليا”، علي بك يوسف أن يخـون الزعيم أحمد عـرابي عـام 1882، وكافأه الإنكليز بلقب “باشا”، ولكن الضمير العام جرده من رتبته العسكرية المرموقة، وأطلق عليه الشعب اسم “خنفس”.
ولقي شركاؤه في الخيانة مصائر قريبة، ومنهم رئيس مجلس الأعيان محمد سلطان باشا الذي جند بالرشوة مسعود الطحاوي صديق أحمد عرابي، وتولى نقل أخباره إلى جيش الاحتلال، وكافأه الخديدوي توفيق بعشرة آلاف فدان، ومنحه الإنكليز لقب “سير”، ولكن جيرانه عاملوه باحتقار أكبر من اللوم فقاطعوه ونبذوه، ولازمته لوثة، فكان يهيم مرددا “سامحني يا عرابي”.
الوشاية استثناء قبيح في شعب تفنن في إخفـاء خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم، رغم المكافأة السخية، تسع سنوات تنقل فيها من بلد إلى آخر وتزوج وأنجب، حتى وشى به حسن الفرارجي فقاطعه أهل قريته حتى مات كمدا.
وذات مرة لمحه مأمور أحد أقسـام الشرطة، وعرفه رغم التخفي، فأمر جنـوده بأن يسبقوه، ثم رجع المأمور إلى النديم، وأعطاه ثلاثة جنيهات، ووصف له طريقا آمنا للهروب. ومن حسن حظ النديم أن حقق معه وكيل النيابة قاسم أمين، في العام 1891، ولم يضغط عليه، بل قدم له القهوة والدخان، وأوصى بتنظيف زنزانته، ومعـاملته باحترام.
والآن، بعد عثرتين لثورة 25 يناير من العام 2011، أتذكر أن الهزيمة كانت ثمنا فادحا للإفاقة من كابوس “دولة المخابرات”، وإعادة اكتشاف كفاءات تمكنت من بناء جيش وطني احترافي لا تشغله ألاعيب السياسة، ولولا الهزيمة ما برز أمثال محمد فوزي، وعبدالمنعم رياض، وسعدالدين الشاذلي، ومحمد صادق، وعبدالغني الجمسي.
وأخشى تكرار خطأ ما قبل يونيو عام 1967 بإعادة إنتاج جيل من الوشاة المحترفين.
………………….
العرب