التقدم الى الوراء
سالم الهمالي
ارتبطت الكلمات والتعابير اللغوية بمفاهيم محددة وإن تعددت، وقلما عبرت عن نقيض المعنى في ذات الوقت، فالتقدم ذهنيا يوحي بآنه للامام فيما يمكن القول ان الوراء يلازم التأخر. يظل الانسان متأملًا في الآتي اكثر منه تحسرًا على الماضي، بالرغم من ان بعض الاحداث في ذلك الماضي تظل تلقي بظلالها على الحاضر والمستقبل. بذلك اصبح اقتران الماضي بالمستقبل متفاوت وملتبس، ليس فقط لأن الماضي معروف والمستقبل مجهول بل أيضًا لانه الماضي أنتهى واستحالت امكانية تغييره فيما يظل المستقبل قيد التصنع والتغيير.
حركة التقدم الى الامام ظاهرة يمكن رصدها في اغلب المجتمعات، لكن قليلة هي تلك التي ارتبط فيها معنى التقدم بالحركة للوراء. على سبيل المثال من النادر جدا ان ترى قطار بخاري هذه الايام في فرنسا او المانيا، لأن عجلة التقدم تجاوزت مرحلة البخار الى الغاز والكهرباء فاصبح القطار اكثر سرعة وأقل تلويثًا للبيئة.
أين تجد في هذا الكون مثلا، مجتمع او بيئة كانت تستخدم القطار، واليوم لا وجود لأي أثرًا له؟!
بالطبع هذا المجتمع ليس في الهند او مصر او المكسيك، ويمكنك ان تخمن اين يكون!
المجتمع الذي فقد القطار في حركته للأمام (التقدم) تراجع للوراء، او بتعبير ثوري تأخر للخلف، بالرغم من انه نظريًا وفي الوهم والاحلام كان يتقدم. ولأنه فقد القطار ليس من المستحيل ان تلحقه الحافلة (وسيلة النقل العام)، بل حتى الطائرة والمطار يمكن ان تصبح شيء من الماضي في ذلك المجتمع، القادر بكل جدارة على التقدم للوراء!!!
ذكرنا القطار والحافلة والطائرة، وإذا صدقت هذه الامثلة كدليل على التقدم للوراء، فلابد ان تتبعها أشياء اخرى في متوالية التردي، كالكهرباء والماء … اي ان ذلك المجتمع او البيئة تعيش تناقص إمدادات الكهرباء والماء في القرن الواحد والعشرون.
هذه الامثلة الظاهرة يمكن تلمسها في تلك المجتمعات التي تعيش في حالة وهم عظيم بأنها تتقدم في حين انها فعليًا (تتأخر بسرعة صاروخية)، ولا غرابة إذًا اذا انحسر الغطاء النباتي او بتعبير أدق قطعت فيها الاشجار الخضراء وحل مكانها تراكيب أسمنتية، وبكل تأكيد إن حدث ذلك سيكون عشوائيا بدون ابسط مقومات البنى التحتية كما يعرفها العالم المتقدم، بل من المؤسف جدا ان ترى في تلك المجتمعات اضمحلال الظواهر المدنية وشيوع الهمجية بشكل يثير الاشمئزاز.
الخلاصة، اذا فقدت القطار والحافلة والمطار والكهرباء والاشجار، فكن على ثقة انك تتقدم بخطى حثيثة الى الوراء حيث التخلف وما قبل الجاهلية في انتظارك …