أنيس فوزي
التضامن مع المظلوم لا يأتِ لأنه من كتلة عرقية معيّنة أو من دين أو جنس أو لون معيّن، وإنما لأنه تعرّضَ لظلم غير مبرّر فقط. وأن الجهة أو الكيان أو الشخص الظالم ليس مخوّلاً ولا جديرا باتخاذ مواقف عنيفة أو شريرة أو خبيثة ضد المظلوم، هذا ما نعرفه أو يعرفه معظم البشر عن التضامن والتكاتف ومساعدة الضعفاء والفقراء والأشخاص الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم بمفردهم.
لكني أستغرب فعلا من معظم دعوات التضامن التي يُطلقها النشطاء المدنيّون، كيف أنها هشّة وساذجة في أحيان كثيرة، فهم الذين من المفترض أن يقدمون خطابا مختلفًا ويفهمون ما معنى المدنيّة التي ينشدونها، ويجعلهم يتصرفون كمدنيّين ليس في أفضل الأوقات فقط، بل من الضروري أن يكونوا هكذا في أسوأ الأوقات أيضًا!
عندما يتم اعتقال مواطن ليبي من أصول أمازيغية، فإن التضامن معه يكون لأنه إنسان يتعرض للظلم فقط. ليس لأنه ليبي أو عربي أو أمازيغي أو أبيض البشرة أو مسلما أو أيّ سببٍ آخر. وكلّما حاول المدنيّون التضامن مع هذا المواطن من منطلق عِرقي فإنهم يعزّزون هذا الجهل. وفي كل مرة يكتبون –مبرّرين-أن الأمازيغ إخوتهم وأن هؤلاء الظالمين لا يمثلّونهم! كانوا يؤكدون أن هناك اختلافا ما، جوهريًّا وليس عاديا.
حين تتعرض المرأة للاعتقال والضرب والظلم، ليس الحل أن ترفض ذلك لأنها امرأة، أو تتضامن معها لأنها امرأة، فحجتك هنا أنها ضعيفة وغير قادرة، وأنها حتى من منظورك –أنت المدنيّ-هي مختلفة عن الرجل، بالرغم من أن آلاف الرجال يتعرضون إلى ما تتعرض له، وهم ضعفاء وغير قادرين أيضًا. وهنا أنت لا تفعل شيئًا سوى تعزيز أن رفضك هذا لكونها امرأة، وأن هذا مبرّر كافٍ –للمتخلفين-لازدرائها والحطّ من كرامتها تحت أيّ سبب ذكوري.
في وقت نشر التقرير –الغبيّ-الذي قدمته صحفية سودانية على قناة CNN بأن هناك بيع للعبيد في ليبيا، التقط الليبيون صور السيلفي مع أصدقائهم وعمّالهم للتأكيد على أنه لا توجد عنصرية في ليبيا، لكنّهم أكّدوا في نفس الوقت وفي نفس الصورة أن هناك اختلافا جوهريًا بينهم، وأن مصطلح العبيد هو مصطلح ينطبق على أصحاب البشرة السوداء فقط. وهذا التضامن في نظري أسوأ من دعوات العنصرية نفسها.
قد نكون ضمن مجتمع غير واعٍ بأهمية الإنسان كفرد، أستطيع القول إننا في أفضل الأحوال “شعب فاشل”، لا نعرف من نحن؟ ما تاريخنا؟ مالذي شكّلنا؟ ومالذي يمكن أن يجمعنا؟ وغيرها من الأسئلة التي معظمنا لا يعرف إجابتها. ولذلك نحن ننتمي إلى جماعات وقبائل، ونكوّنُ شعوبًا داخل الشعب الواحد، ونحب أن نتقوقع ضمن قطعان تشعرنا بقيمة مزيفة، ولسنا–بكل تأكيد-شعبا بالمعنى الذي يخوّلنا أن تكون لنا حياة مستقلة كأفراد.
وبالتالي، التضامن في هذه الظروف هو عَقَدي أو قبلي أو جهوي أو قوميّ أو غيره، وليس أبدًا تضامنا واعيًا ومسؤولا، يبديه الناس باختلاف مشاربهم ومعتقداتهم وأفكارهم رغم أن بعضهم لا يجمعهم جامع ولا هدف واحد. هو تضامن من نوعية “أنا وأخويا على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب”.
التضامن مع المظلوم، مفهوم يحمل دلالات إنسانية عالية ونبيلة للغاية، فهو يؤكّد بالضرورة أن المظلوم إنسان مثله، وتُبنى الاحتمالات تلقائيًا على أنه قد يكون في مكانه، وأن صمته ربما يؤدي إلى انتقال الظلم إلى آخرين منهم عائلته، ومنهم آخرون لهم عوائل مثله.
والتضامن عند أصحاب الضمائر الحيّة يصل إلى رفض الظلم على الأعداء حتى، بل ورفض الظالم ” لو كان من صلبه ومن أسرته وعظم رقبته”، لكن للأسف قليل جدا من يمتلكون هذا الحس الإنساني الراقي، هذا الشعور اللامحدود بالآخر، ليس لدينا في ليبيا فقط، وإنما في كل العالم.
على التضامن مع المظلومين أن يكون صادقًا أولاً، وواعيًا ثانيا، ومستمرا دائمًا، وليس عليه أن ينطلق من أي دافع قبلي أو أيدولوجي أو ديني أو عرقي أو غيره، ويجدر القول إنه على المجتمع المدني أن يتعب قليلا، ويختلف عن غيره من أصحاب الخطابات العنصرية والمتعصبة والقبلية المتحيزة، وأن يتوقف عن تأكيد الأسباب التي تؤدي إلى الظلم، سواء بقصد أو من دون قصد، وأن ينقل إلى المجتمع صورة التضامن الصحيحة، عندما يتضامن مع أعدائه وخصومه أيضًا، وأن يستمر في مناقشة أسباب هذا الظلم، وأن يساعد المظلومين متى استطاع وأينما كانوا بدون شروط ولا حدود، وأن يتخلص من عقدة الوعي القبلي الجمعي التي تعشش في داخله.