محمد عمر أحمد بن اجديرية
بات جليًا منذ مؤتمر برلين(1)* الذي ضمّ حكومات 12 دولة بما فيها الدول الخمسة، صاحبة حق النقض “الفيتو”، وحضور الرباعي الراعي للتسوية السياسية في ليبيا بقيادة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، مدى سعي المجتمع الدولي إلى إيجاد حل سياسي عبر تسوية سياسية توافقية، واستبعاد الحل العسكري.
وجاءت خلاصات “مخرجات” مؤتمر برلين على شكل 55 نقطة خصصت منها النقاط العشرة الممتدة من 25 حتى 34 لتحديد شكل العملية السياسية(2)* وتم التأكيد على مخرجات مؤتمر برلين في قرار مجلس الأمن رقم 2510 الصادر من قبل مجلس الأمن بتاريخ 12 فبراير 2020، وعملت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا منذ انتهاء مؤتمر برلين إلى القيام بتنفيذ مخرجاته عبر ما اصطلح على تسميته بالمسارات الستة المتوازية:
– المسار الأمني والعسكري.
– المسار السياسي.
– المسار الاقتصادي والمالي.
– حظر التسليح.
– المسار الإنساني والحقوقي.
– إشراك المرأة والشباب.
وخلال الأشهر الخمسة التي تلت مؤتمر برلين، وعبر لقاءات ماراثونية أجراها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، غسان سلامة، ولاحًقا الممثلة الخاصة بالإنابة ستيفاني ويليامز، مع معظم الفاعلين المحليين و الأطراف الدولية المنخرطة في الأزمة الليبية؛ تم تحقيق تقدم ملحوظ في عدة مسارات، لعلّ أبرزها المسار الاقتصادي والمالي، في حين قاد تعنت الفرقاء الليبيين المتحاربين إلى زيادة التصعيد العسكري، وجمود في المسار السياسي.
تسارع الأحداث
عاملان أساسيان عملا على تسارع الأحداث وتحريك المياه الراكدة في المسارين العسكري والسياسي هما:
1- هزيمة قوات الكرامة (الجيش الوطني الليبي) بقيادة المشير خليفة حفتر، وإخراجه من عموم المنطقة الغربية إلى تخوم سرت والجفرة.
هذه الهزيمة، خفّفت من جموح واندفاع المشير، وقلصت طموحاته إلى الرضا بتقاسم السلطة مع حكومة “الوفاق” وحلفائها في غرب ليبيا، فضلاً عن أن هذه الهزيمة التي حولت المشير من رقم صعب في المعادلة الليبية إلى شريك على قدم المساواة مع بقية أطراف الصراع، وباتت الأطراف الليبية المتقاتلة، مدركة استحالة الحسم العسكري، لأي طرف، كما بات هذا الأمر قناعة لدى الرُعاة الخارجين لطرفي الصراع في ليبيا.
2- تحرك الشارع الليبي ضد الفساد والمطالبة بتحسين ظروف الحياة في كبريات المدن الليبية “سبها- طرابلس- بنغازي” وغيرها من المدن الليبية. هذه المظاهرات شكّلت ناقوس خطر، استشعر قوته متصدرو المشهد الليبي في شرق وغرب ليبيا، الذين حاولوا في البداية استيعابه، وتحويه لصالحهم؛ إلا أن تزايد المظاهرات وانتشارها سريعًا من مدينة إلى أخرى، جعل متصدري المشهد يدركون أن زيادة زخم المظاهرات قد تجرفهم في طريقها، وتطيح بهم جميعا دون استثناء، فكان الاحتواء عبر البيانين الصادرين من قبل فايز السراج وعقيلة صالح، بفارق زمني لا يتعدى ثلاث ساعات، وبصيغة تكاد تكون متطابقة، مع اختلاف طفيف في سلم الأولويات وترتيب النقاط!
ويكاد الخبراء والمراقبون الأجانب للشأن السياسي في ليبيا يجمعون على أن تحرك الشارع هو العامل الحاسم الذي جعل الأمور تتسارع إلى ما آلت إليه في الـ 70 يومًا الأخيرة، في حين يرى كثير من الليبيين أن إخراج قوات الكرامة من غرب ليبيا، هو ما أفضى إلى تسارع الأحداث.
ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس
وخلال الأشهر الاخيرة الفائتة، سعت البعثة الأممية في تكتم شديد إلى العمل بصمت للتحضير لملتقى الحوار السياسي الليبي واختيار الأعضاء المشاركين فيه، ولم تفصح عن قائمة المشاركين، إلا قبل أسبوعين من انعقاد المؤتمر، الذي حددت البعثة الأممية معايير اختيارهم في بيان نشرته يوم 26 أكتوبر، ورد فيه “إن هذه المجموعة تضم ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بالإضافة إلى القوى السياسية الفاعلة من خارج نطاق المؤسستين، وفي ظل التزام راسخ بالمشاركة الهادفة للمرأة والشباب والأقليات بحيث يكون الحوار شاملا لكافة أطياف ومكونات الشعب الليبي”(3)*.
المتتبع لتصريحات الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة، ستيفاني ويليامز، خلال الشهرين الماضيين حول المسارين العسكري والأمني، يدرك دون كبير عناء أن المسار السياسي مكون من عدة جولات وجلسات وليس جولة واحدة(4)* إلا أن موجة التفاؤل التي صاحبت انعقاد الملتقى في الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية “قمرت”، أنست الكثيرين هذه المسألة!
وقد استطاع المشاركون الـ 75 في الجولة الأولى من ملتقى الحوار السياسي الليبي أن يعدوا ويتفقوا على أكثر من نصف جدول أعمال المستهدف من ملتقى الحوار السياسي الليبي، وعندما اقترحت البعثة الأممية أن يأخذوا راحة لأسبوعين قبل الشروع في الجولة الثانية من الملتقى، أصر المشاركون ألا تتعدى الراحة أيام قليلة، ثم يواصلوا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ونظرًا لظروف “كورونا المستجد” وما ترتب عليها من صعوبة التنقل، ورأى المشاركون أن تكون بقية الجلسات عبر اللقاءات الافتراضية عبر “الزوم”.
كان هناك غيابًا للوعي المدني والسياسي لدى غالبية المتعاطين الليبيين مع الشأن السياسي، نظرًا لاستشراء ثقافة الشخصنة؛ فالغالبية تركز على أسماء وحيثيات الشخصيات التي يتم اختيارها لتولي المناصب السيادية كأعضاء المجلس الرئاسي ورئاسة حكومة الوحدة الوطنية، أما البرامج والضوابط وشكل وماهية المرحلة الانتقالية، فتأتي في المقام الثاني في عرف الغالبية!
ويرى المراقبون والخبراء أن الجولة الأولى من ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس كانت ناجحة بكل المقاييس، للاعتبارات التالية:
* وضع خارطة طريق(5)* تم فيها تحديد المستهدف من المرحلة الانتقالية التي حددت مدتها بسنة وشهر فقط، تنتهي بانتخابات رئاسية وبرلمانية حدد لها 24 ديسمبر 2021.
* تحديد صلاحيات حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي. وسيتم في الجولة الثانية التي ستعقد بعد أيام تحديد معايير اختيار أعضاء حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي.
* استطاعت كتلة المستقلين (49 عضو) أن تفرض قرار التحقيق في شبهات المال الفاسد لشراء الذمم، وقد باشرت البعثة الأممية بالفعل التحقيقات، وستتم معاقبة الراشي والمرتشي على حد سواء.
*بسبب طبيعة احتساب الأصوات (الآلية التي وضعها المستقلون لئلا تفرض وتمرر كتلتا البرلمان والمجلس الأعلى قراراتهم وهم لا يتجاوزون 26 مشاركا) لم يحظى قرار استبعاد كافة متصدري المشهد الذين تقلدوا مناصب من الترشح، بحصوله على 61% فقط من الأصوات، في حين أن النصاب هو 75% من الأصوات، ومع ذلك استطاعت كتلة المستقلين أن ترفض اختيار مرشحي البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، وهو بحد ذاته إنجاز وسابقة غير معهودة في مسار الأزمة الليبية خلال السنوات التسع الماضية.
خلال السنوات التسع الماضية، اعتادت الأجسام والهيئات السيادية أن تكون صاحبة الصولة والجولة في أي مسار أو اتفاق، وتهميش المستقلين، بل بلغ الأمر في الاتفاق السياسي بالصخيرات أن كانت التسوية بين الطرفين المتصارعين دون وجود أي من المستقلين.
هذه المرة برعت البعثة الأممية في اجتراح توليفة المشاركين بحيث يكون المستقلين أغلبية (49 مشارك) في وجه كتلة البرلمان والمجلس الأعلى (26 مشارك).
من هنا، نرى أن البعثة كانت موفقة جدا في كل التحضيرات والترتيبات، بمهنية واحتراف قامت برعاية ملتقى الحوار السياسي الليبي بتونس، وفق الأصول المتبعة عادة في مثل هكذا رعاية أممية، وبهذه الإجراءات، فضلا على أن المستقلين أثبتوا علو كعبهم في الحفاظ على المسار الوطني للملتقى، واستطاعوا التصدي بطريقة مشرفة ورائعة لسعي كتلتي البرلمان والمجلس للسيطرة على الملتقى وفرض رؤيتهم، التي لا تخدم إلا مصالح متصدري المشهد العام الذين فشلوا فشلاً ذريعًا في إدارة الأزمة طيلة السنوات التسعة الماضية، والآن الكرة في مرمى الشعب الليبي للمحافظة على هذه المكتسبات التي تحققت في الجولة الأولى من ملتقى الحوار السياسي الليبي، بفضل الدور الوطني المتميز الذي لعبه أغلب المستقلين.
عليه؛ نرى أنه على الشعب الليبي أن يظهر التعاضد والتآزر مع جهد المستقلين وتثمينه والإشادة به، عبر كل السبل من خلال وسائط التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية، والوقفات الاحتجاجية، والمسيرات والتحرك في الشارع، لأنه فقط حراك الشارع ما يخيف متصدري المشهد، الذين عندما يجدون الشارع ضدهم يعملون على الانصياع لإرادته حفاظا على مكتسباتهم خلال المرحلة الانتقالية.
كما أثبت غالبية المستقلين وعيهم وحرصهم على مصلحة ليبيا، يجب أن يتخلى غالبية الليبيين عن سلبيتهم وأن ينزلوا للشارع لمؤازرة وتأييد المستقلين والشد على أيديهم للمضي قدما بسفينة الوطن إلى بر الأمان، بعد أن كاد اقتتال متصدري المشهد على المال والسلطة والجاه أن يغرقها.
حفظ الله ليبيا من كل مكروه.
الهوامش
(1)* – مؤتمر برلين حول ليبيا: موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، تاريخ النشر: 19 يناير 2020.
(2)* – المصدر السابق.
(3)*- بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا تحدد معايير اختيار المشاركين في ملتقى الحوار السياسي: موقع روسيا اليوم، تاريخ النشر: 26 أكتوبر 2020.
(4)*- كلمة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة، ستيفاني وليامز في الجلسة الأولى لملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس: موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، تاريخ النشر: 9 نوفمبر 2020
(5)* – بيان من الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة، ستيفاني وليامز، حول الجولة الأولى لملتقى الحوار السياسي الليبي: موقع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، تاريخ النشر: 16 نوفمبر 2020.