التربية المنفلة وأثرها في إنتاج سلوك العنف!!
د. فرج دردور
التربية المنفلة هي التي لا تخضع لقواعد العلم، ولا تتقيد بضوابط تعديل السلوك، حيث أن التربية في القرن 21، لم تعد مقتصرة على الأسرة، لا بل صارت مسؤولية مؤسسات تدعمها الحكومات، وتضع لها خطط وبرامج تضمن الحفاظ على الاستقرار، وتهدف إلى تعويد الناس على الاطلاع بدور في جماعة تلتقي على مصلحة مشتركة. هذه المصلحة تخضع لمبدأ التجانس الاجتماعي الذي يستوعب الاختلاف الفكري ويحقق تنوع الإنتاج المعرفي الذي يغذي حركة المجتمع، فتتكامل المصالح بدل أن تتضارب في ظل سلام يظهر بشكل تلقائي، ويختفي العنف الذي هو استجابة إلى الخلل في ضبط التنوع، ونتاج لتداخل المصالح.
لقد كونت الحقبة الزمنية الماضية في ليبيا تراكماً سلوكياً يقوم على إلغاء الآخرين وشطبهم، واللجوء إلى استعمال الخطابات الحماسية البعيدة عن المنطق، واتباع سياسة التخوين والتكفير وكيل الاتهامات جزافاً، وتعنيف المخالفين بشتى الوسائل، ومحاولة احتواء المثقفين، في بوتقة الولاء التام للنظام القائم. وهو ما أفسد الحياة الفكرية والثقافية والسياسة للمواطن الليبي. وما نشاهده اليوم من محاولة بعض المجموعات فرض وجهة نظرها بالقوة على شعب بأكمله، إلا دليل على انعدام ثقافة الحوار عند هذه المجموعات، وهو ما أدى إلى انحراف الحراك الاجتماعي والسياسي نحو منحدر خطير يصب في مستنقع العنف بين الأطراف المتصارعة على السلطة.
فالمشكلة الحقيقة للأزمة الليبية اليوم هي ممارسة العنف السياسي بدل العمل بالحوار كأداة لحل الخلافات. أما السبب فهو انعدام ثقافة الحوار في المجتمع نتيجة عدم اقتران التعليم بالتربية وفق منهج علمي يتغذى من مراكز البحوث العلمية التربوية، والدليل هو أن الديكتاتورية تبدأ من الأسرة. حيث أن العلاقة الأسرية في الغالب تخضع لأسلوب الأوامر والطاعات، ويتحكم فيها مزاج الأفراد عند تربية الأبناء، إما عاطفة مفرطة، وإما عقاب لدرجة السادية. هذا النوع من العلاقات المضطربة نتيجة التربية المنفلتة، يعكس سلوك العنف المنتشر ـ إلى حد كبير ـ بين معظم الليبيين حتى المتعلمين منهم، وهو ما يفسر غياب مبادرات حقيقية تهدف للمصالحة. وتظل الأنانية والانتصار للذات، وتقديم المصالح الخاصة على مصلحة الوطن، هي الشكل البشع الذي يحكم العملية السياسية.
وتعد ثقافة الحوار محوراً هاماً في بناء لبنة الديمقراطية القائمة على تعددية الفكر والتنوع الثقافي والسياسي. هذه الثقافة عنوانها قدرة الإنسان على التفاعل مع الآخرين والاستماع إلى الرأي الآخر، واحترام وجهة النظر المعارضة، والهدف هو الوصول إلى القواسم المشتركة في أية قضية مطروحة للنقاش.
أما أهم متطلبات الحوار فهي الهدوء وشعور جميع الأطراف المتحاورة بالأمن، فإذا امتلك أحدهم السلاح ويلوح باستخدامه في حال فشل الحوار، فإن نتائجه لن تكون ملزمة بعد انتهاء أسباب حدوثها. كذلك التكافؤ بين المحاورين من حيث المستوى العلمي والثقافي، ولهذا تحرص الجهات المتحاورة على تفويض النخبة من بينهم كي يمثلونهم.
وعليه فإن اللجوء للحوار هو الخيار المناسب للخروج من آثار وترسبات الماضي، وحصاده الحالي، وهو الدافع القوي نحو تطلعات المستقبل. وذلك لأن ثقافة الحوار هي الأساس السليم التي تبنى على قواعده الأوطان، وتؤسس به الديمقراطيات، كما أنه السبيل القويم لنشأة المواطن الصالح المحب لوطنه المشارك في رقي مجتمعه. فهو يبدأ من الأسرة وتدعمه المدرسة بمناهجها، وتلح عليه وسائل الإعلام في برامجها.