هل عصر الفردانية إلى زوال (2)
مايكل فولي
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
الترابط الجديد
تراجُع الفردانية واضح عمليا، وكذلك نظريا، في وسائل التواصل الاجتماعي والقبائل الحضرية وجماعات الصداقة والاحتفالات (التي ما زالت تتوسع أسرع مما تفعل عشبة العقد اليابانية) وcosplay* والألعاب التقليدية وكل النشاطات الجماعية، بما في ذلك الرقص والغناء الجماعي وفريق اللعب و**themed parties. وهذا التوجه واضح حتى في المطاعم من خلال الموائد والمجالس الجماعية والقصاع المشتركة. وحتى القراءة، التي هي أساس الممارسة المنعزلة، أصبحت تجرى في قراءات جماعية. ثمة أيضا دلائل دينية مع الشعبية المتنامية لكنائس الخمسينية*** Pentacostal التي تقلل من التركيز على التدين الفردي مشجعة، بدلا من ذلك، المشاركة الجماعية في الغناء والرقص.
في السياسة، يمينا ويسارا، كان ثمة رفض أكثر إثارة للفرضية القائلة بأن الديمقراطية مرتكزة على الأيديولوجيا الليبرالية بشأن حقوق الفرد. إن نهوض شعبوية الجناح اليميني ارتكز على تجديد المعتقد المتعلق بالقومية، وتم التعبير عنه من خلال التظاهرات الجماهيرية التي تعيد التأكيد على الانتماء belonging باعتباره تجمعا من المؤمنين النشوانين، بينما لدى اليسار ثمة شكل جديد من الجماعة الفوضوية المرحة. في كتابه “التدمير المطلق: أخلاق الالتزام والسياسة والمقاومة” الصادر سنة 2008، يكتب الفيلسوف سيمون كرتشلي “الفوضوية – ما يمكن أن ندعوه ‘الفوضوية القائمة‘ هي، من وجهة نظري، استجابة متجددة الدافع والنشاط لتيار الديمقراطية الليبرالية عديمة الدافع. وعلى وجه الخصوص… فإن المرح الكرنفالي للجماعات الفوضوية وتكتيكاتها في ‘الحرب غير العنيفة‘ قد قادت إلى خلق لغة جديدة للعصيان المدني وإحياء فكرة الديمقراطية المباشرة”. وكرتشلي يرفض، تحديدا، الفوضوية الفردانية لسبب آخر أكثر اجتماعية: “مفهوم الفوضوية الذي أسعى إلى الدفاع عنه… لا ينتظم بشدة حول الحرية، قدر انتظامه حول المسؤولية”.
هنا يحدد كرتشلي المشكلة التي جعلت الفردانية تفقد هالتها. فالحرية الشخصية، التي هي الملمح الجوهري للفردانية، ليست توجها عالميا، مثلما ظهرت عليه في البداية. فبالعودة إلى فورة الستينيات والسبعينيات، وهي حقبة المطالب الشعبية بالتحرر liberation والحقوق، بدا أن ما تحتاجه للاستمتاع بحياة مكتملة هو أن تكون حرا. بيد أن الحرية الكاملة، وكما لاحظ الشعبويون، متاحة فقط للقلة القادرة على تحملها. والعديد من هذه القلة المحظوظة قد اكتشفوا أن الحرية الكلية ليست تحررا ولكنها عبء من نوع جديد. الخيار اللامقيد infinite مبهج نظريا، ولكنه منهك عمليا حيث يتطلب أن يكون أي قرار متخذا على أساس المبادئ الأولية، خصوصا من قبل أولئك الذين لا يتوفرون على مبادئ. والإمكانية المبهجة برفض الإلزام والالتزام، من أجل أن يحيا المرء بنفسه ولنفسه، اتضح أنها لا ترقى إلى مستوى الاكتمال.
بذور الغضب
الدليل موجود سلفا في حياة الآباء المؤسسين للفردانية: بودلير (1821- 67) أكثر الشعراء الحديثين تأثيرا، فلوبير (1821- 80) أكثر الروائيين الحديثين تأثيرا، ونيتشه (1844- 1900) أكثر المفكرين الحديثين تأثيرا، عاش ثلاثتهم وحيدين وكانوا متحمسين في إصرارهم على العزلة والحرية، ورفضهم للزواج والديمقراطية، وازدرائهم لما يصفونه “القطيع السائد common herd”. وكما عبر فلوبير مرة: “لقد بنيت نفسي كبرج وتركت أمواج القذارة تضرب قاعدته”.
ينبغي أن تكون حياة العزلة الحرة قد وفرت ذرى من نشوة الإبداع على قاعدة من السكينة، إلا أنه يبدو أنها، بدلا من ذلك، تستجلب الغضب. الفردانيون المؤسسون الثلاثة كانو دائما ساخطين. نيتشة، الأكثر انفصالا، والذي يعيش وحده في تورن، دون أية حياة اجتماعية، كان أيضا الأكثر غضبا، محملا مصاعبه كلها لأمته وتربيته، وكان يكتب رسائل إلى أسرته وأصدقائه يسيء إليهم فيها، كما كان يتشاجر مع ناشره الودود معه، ويطالب بالإعدام العلني للقيصر.
المشكلة أن النشوة العقلية تشجع على ازدراء الناس الموجودين أسفل البرج وتنامي الثقة في قناعات المرء نفسه، تلك القناعات التي يفشل العالم، بسبب عناده الغبي، في مجرد الاعتراف بها، ناهيك عن قبولها. النتيجة هي الغضب.
من الأمثلة المتأخرة جدا عن هذه المتلازمة المرضية syndrome الشاعر فِلِب لاركِن الذي رفض الالتزام بأي من عشيقاته أو الانخراط في أي نشاط اجتماعي لا يناسبه. عاش وحيدا ولنفسه وحدها، ومع ذلك وصف نفسه في أخريات حياته بأنه “يغلي غضبا”. المفارقة أن لاركن صان حريته من أجل توفير وقت للكتابة، إلا أنه رغم نجاحه الجيد جدا [سابقا] لم يجد لديه ما يقوله، واعتراه الجفاف.
* حرفيا “ملابس اللعب” التي تلبس لتمثيل شخصية خيالية.
** حفلة يكون على المشاركين فيها ارتداء ملابس متناسبة مع موضوع الحفلة.
*** حركة دينية بروتستانتية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وتتميز هذه الحركة بالإيمان بأن جميع المسيحيين بحاجة لأن يعيشوا اختبارا فريدا لكي يكونوا مسيحيين فعلا، ويسمى هذا الاختبار بمعمودية الروح القدس.