البطون الرخوة والخازوق التركي
سالم العوكلي
سبق أن كتبت قبل سنوات أن الصراع في المنطقة ، رغم ما يتخذ من أقنعة دينية ومذهبية، صراع قوميات في جوهره لها تاريخ طويل من النزاعات والحروب في هذا المنطقة المسماة الشرق الأوسط وصولا إلى الساحل شمال الأفريقي.
قوميات لها سلطات وحدود سياسية ، أو كيانات سياسية دون حدود، وأخرى دون كيان أو حدود سياسية، ممكن أن نحدد أهمها في : العرب، الفرس ، الترك، الأكراد، الدولة اليهودية باعتبار اليهودية عرقا وليست مجرد دين، القومية الأرمنية التي صفتها القومية التركية عبر مجزرة تطهير عرقي قبل قرن من الزمان وتشتتت في العالم، إضافة إلى ظهور النزعة الأمازيغية اللائكية في خطابات بعض القوميين في الشمال الأفريقي.
منذ سقوط الدولة الأموية انحسرت خطابات القومية العربية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان في قلب الدولة الإسلامية منذ بداياتها، ولم تظهر أي بوادر تعبوية أو إجرائية ــ إذا ما استثنينا بعض الانتفاضات القومية ضد الاحتلال العثماني ــ إلا بعد ثورة يوليو في مصر، حيث أججت شخصية عبد الناصر هذا الحس القومي من قلب مجتمع لدى غالبيته قناعات أنه يمثل حضارة عريقة لا تمت للعرب بصلة سوى اعتناق جزء منه ديانتهم، الحضارة الفرعونية.
وقد تحالف ضد هذا النزوع القومي الباهر في قوته قوى مختلفة، من ضمنها القوميات الأخرى المتربصة بالمنطقة، والحركات الإسلامية ، وبعض الدول التي كانت تسمى رجعية ولا تريد للظاهرة الناصرية أن تهز عروشها، إضافة إلى قوى غربية ترى في هذا الحس القومي تهديدا لمصالحها التي تمثلها إقطاعيات على الضفة الأخرى للمتوسط، وبعض المحللين يذهبون إلى أن لمشروع غرس الكيان الصهيوني في قلب هذه الجغرافيا؛ التي تمكن منها العرب إبان الفتوحات الإسلامية، وشطرها إلى نصفين، جزء من هذا الحذر من قيام كيان موحد جنوب المتوسط.
بعد ناصر جاء السادات ليقضي على هذا الحس في مركزه، ولتقوم مؤسسات كثيرة بتمشيط مرحلة القومية في مصر، ويتحالف مع التيارات الإسلامية الضد القومية العربية، وتنشط في عصره دعوات الهوية الفرعونية، لينتهي المطاف بتوقيع معاهدة سلام مع الدولة اليهودية، كانت المسمار الأول في نعش المد القومي في مركزه القاهرة. لينزاح هذا الهاجس البعثي تجاه مجموعة دول (سميت دول الممانعة) مثل سوريا والعراق وليبيا، قبل أن تنسحب ليبيا من نذر زعيمها القومي الذي التحق زعيما بالفضاء الأفريقي بعد أن فشل أن يكون أمينا للقومية العربية كما عيّنه عبد الناصر شفويا.
حدث إبان هذه المراحل تحالفات لبعض الأقطار العربية مع فضاءات مجاورة من القوميات الأخرى، مثل حلف بغداد الرسمي الذي ضم العراق وتركيا وإيران وباكستان إضافة إلى راعيته بريطانيا ، وحلف يرشلونة، أو حلف قطر الآن، غير الرسمي، مع تركيا وإيران.
وعجزت الجامعة العربية التي أسسها الإنجليز كمُعبّر عن أقطار لا يوحد بينها شيء سياسيا وإن كانت تتكلم اللغة نفسها وتجتر التاريخ والتراث نفسه، على أن تجمع هذا الشتات السياسي، وتحولت مؤتمرات القمة إلى لقاءات دورية للنزاع والشجار والشتائم المتبادلة، وخلال هذه الفترة الطويلة من أوجاع الجامعة كان الاتحاد الأوربي على ضاف المتوسط يؤسَّس على مهل، ووفق دراسات تتعلق بالمستقبل وليس بشجون الماضي، وهو اتحاد في صميمه قومي وإن كان للمصالح دور مهم في تكوينه، ولأنه قومي رفض مرارا انضمام تركيا إليه رغم أنها تلبي شروطه الاقتصادية والسياسية، وفوق ذلك عضو في حلف الناتو . غير أن الملف الحقوقي ومذبحة الأرمن التي رفض الأتراك الاعتذار عنها كانت الذريعة الظاهرة لعدم قبول تركيا للانضمام إلى هذا الاتحاد رغم ما بذلته من جهد وما قدمته من تنازلات حد التوسل لقبولها.
في القرون التي سيطرت فيها الدولة العثمانية على معظم الأقطار العربية ظهرت نزعات قومية عربية ضد الاحتلال التركي الذي فرض نفسه على هذه المنطقة بأجندته الدينية، وبدغدغة عواطف تلك الشعوب الفقيرة بمشروع الأمة الإسلامية، ونظام الخلافة والمبايعة الذي يعتبرونه بديلا لديمقراطية الغرب الصليبي أو الكافر.
الآن تعود تركيا للعبة نفسها مستغلة المشاعر الدينية ومتحالفة مع كل التنظيمات الإسلامية التي هي بطبيعتها العقائدية ضد القومية العربية وضد الدولة القطرية، من إسلام الأخوان البراغماتي وصولا إلى تنظيم داعش المتطرف، وهو نزوع قومي تركي يتخذ من الدين وسيلة للحشد في مواجهة المد القومي الفارسي الذي بدوره يلعب على الوتر المذهبي. بينما الكيان الصهيوني الذي أعلن إسرائيل دولة يهودية وعاصمتها القدس بتفرج على هذا العرس الدموي بابتهاج، في انتظار أن يأخذ حصته من تقسيم جديد لتركة سايكس وبيكو، والذي منذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر، ومن ثم سقوط بغداد، استطاع أن يُضعف أو ينهي تلك الجيوش المحيطة به بين تحييد أو تدمير، وكان آخرها الجيش السوري الذي قاومت دولته المستبدة الكثير من المؤامرات إلى أن وقعت في خطأها الفادح عبر طريقة التعامل مع ظاهرة الربيع العربي، وكل الصراعات التي يخوضها جماعة الأخوان مع المؤسسات العسكرية داخل الدول تأتي في هذا الإطار.
بهذا المعنى، صراع القوميات واقع جلي، وسيستمر وقتا طويلا في المنطقة، والقومية العربية لابد أن تنتبه لهذا، بشرط أن تغير من طبيعة مضمونها وشكلها وخطابها بما يشبه الاتحاد الأوروبي ، وكما سبق أن قلت في أماكن أخرى لا يمكن لقومية أن تكون لها فاعلية على الأرض وفي الزمن إلا في فضاء من الديمقراطية ، حيث اتحاد الدول الممثلة لهذه القومية تحركه الشعوب والمصالح والمؤسسات والمستقبل، وليس النظم المتناقضة والعواطف والقبائل والماضي.
حاول النظام التركي عبر مده القومي الجديد أن ينتهز فرصة الربيع العربي والفوضى التي أعقبته، وتلك البطون الرخوة التي تمخضت عن هذه الثورات، لينقض من جديد على المنطقة مستخدما التنظيمات الإسلاموية التي استطاعت سرقة هذا الربيع والتحكم في كثير من مناطقه ومفاصله، باعتبارها منظمة ومدعومة من قوى كبرى، ولا منافس لها من التيارات السياسية الأخرى التي نُكّل بها جميعا إبان حكم النظم الاستبدادية، عسكرية كانت أم مدنية . وجولة أردوجان في مصر وتونس وليبيا أكتوبر 2011 ، وإلقاء خطابه (الإسلاموي في دار الأوبرا!) الذي تفاعل معه الحضور الغالب من الإخوان المسلمين في مصر، وزادت حدة التصفيق عندما استشهد بآيات قرآنية وأحاديث شريفة وتحدث عن الغزو الإسرائيلي والموقف التركى من إسرائيل، حيث تعالت الهتافات فى القاعة.. وكان منها “مصر وتركيا إيد واحدة”، “أردوغان يا زعيم .. وحد صف المسلمين”، خاتما خطابه بقوله “أن مصر ستكون مفتاح تركيا إلى إفريقيا”.
حاولت تركيا أن تنقض على مصر فترة الحاكم الإسلامي مرسي الذي وصل عبر الانتخابات، لكن إقصاء حزبه لكل القوى الأخرى، وظهور بوادر من مخططات تمس الأمن القومي المصري، جعلته يدفع الثمن مبكرا حين خرج الملايين في ثورة ثانية ضده معززة بالمؤسسة العسكرية كما حدث بعد ذلك في السودان وفي الجزائر .
ضاعت مصر من الحلم الأردوغاني، وضاعت السودان بعد نهاية البشير، وضاعت سوريا بعد عودة جيشها ليسيطر على الأرض بدعم من الحليفين الروسي والإيراني، ولم يبق له سوى البطن الرخو الوحيد، ليبيا، لتكون مفتاحه البديل إلى أفريقيا، و لينقذ ما يمكن إنقاذه من أحلامه التي أصبحت ضد منطق التاريخ والجغرافيا، وخلط في هذه الحالة بين المشاعر القومية والمشاعر الدينية ، حين خاطب في الوقت نفسه أخوته في ليبيا من الأصل التركي وخاطب إخوانه من جماعة الأخوان من أصله الأيديولوجي، ونجح في استقطاب هذه الخلطة ممن يتصدرون المشهد في العاصمة طرابلس لتوقيع معاهدة بشأن النفوذ البحري في المتوسط ،ثم معاهدة بشأن التعاون العسكري والأمني، ليصل في النهاية إلى طلب رسمي من حكومة الوفاق الدولي للتدخل في ليبيا لمحاربة الجيش الليبي الذي يتقدم نحو طرابلس التي لا يرى فيها سوى مقر أستانة تابعة لتركيا، بينما وزير داخلية حكومة الوفاق، باشاغا، يتجول في المدينة القديمة ويلتقط الصور أمام المباني التركية القديمة، حائط مبكى الإمبراطورية الآفلة.
بدأ أردوجان في إرسال المقاتلين من حلفائه من الجماعات المتطرفة في سوريا التي ابتعلت ما يسمى الجيش الحر، وبعض الضباط الأتراك إلى السواحل الليبية قبل حتى أن يأخذ التفويض من برلمانه الذي يسيطر عليه حزبه الإسلامي والقوميون ، وفي جلسة البرلمان تحدثت أحزاب المعارضة عن القرارات المنفردة وعن حكم الرجل الواحد في دولة تتظاهر بالشكل الديمقراطي، وهذه حقيقة أردوجان الذي يرى أن هذا الشكل الديمقراطي يتناقض مع عقيدته الأساسية التي لا ترى شكلا للحكم إلا في السلطان أو الخليفة، ولا شكل للدولة إلا الدولة العثمانية التركية القومية التي تتنكر في هيأة دولة إسلامية، وتحالفُ حزب “الحركة القومية” مع حزب العدالة والتنمية يؤكد هذا التوجه عبر تفاهم اليمينَين: الإسلاموي والقومي، من أجل مشروع الإمبراطورية التي كانت هجينا من نظام السلطنة القومية التركية ونظام الخلافة الإسلامية.
الليبيون والكثير من العرب يُرجعون خروجهم من الطور الحضاري، وتخلفهم عن الأمم الأخرى، إلى تداعيات الاحتلال التركي الذي خضعوا له أربعة قرون، لم يترك فيها الأتراك بعدها لا مدارس ولا جامعات ولا معارف أو اكتشافات أو مكتبات، ولا حتى حقول زيتون أو صهاريج أو سدود، كما تركت الأمم الأخرى التي احتلت المنطقة لردح من الزمن. لا يتذكر العرب الأتراكَ إلا بالمجازر التي ارتكبوها ضد العرب في مناطق مختلفة، وبالدرك الذين كانوا يجمعون أموال الجزية والخراج، ولا تتذكرهم سوى بالاختراع الحصري لهم وهو الخازوق، وبالحرملك، أو بالطرابيش التي انحسرت تدريجيا، منذ الستينيات ومع المد القومي العربي، من الشوارع والمقاهي ومن مشاهد الدراما العربية.