“البراني خير” متلازمة الخواجة
محمد خليفة إدريس
بداية وقبل أن أدخل في صلب الموضوع، لا بد من تنويه واجب بأن كل الناس “خير وبركة”، فلعل القارئ الكريم سيتهمني بالعنصرية إذا ما قَرأ العنوان وحده، أو إذا ما بدأت مباشرة بسرد تفاصيل هذا الموضوع الذي بات يؤرقني.
لا شك أن الناس يتفاوتون في علمهم وإتقانهم للأعمال والوظائف المنوطة بهم؛ وهذه هي الطبيعة البشرية التي جبلنا الله عليها، ولكن ما يحدث في كثير من الأحيان أن التقييم في مؤسساتنا الليبية خصوصا والعربية بشكل عام، يجانبه الصواب ويشوبه الكثير من المغالطات ويفتقر للموضوعية، ولعل أبرز عوامل تقييم المتقدمين للوظائف أو تقدير مرتباتهم هي الجنسية أو العلاقات الشخصية.
في مستشفياتنا الليبية على سبيل المثال لا الحصر، تجد الطبيب الأجنبي يتقاضى راتبا أضعاف راتب الطبيب الليبي وكذلك أساتذة الجامعات وغيرها من المؤسسات، على الرغم من وجود كوادر وطنية تكاد تكون مماثلة لها إن لم تكن أفضل، ناهيك عن عقول هُجِّرت بسبب جحود القطاع العام، فهم أبناء هذا البلد، وبالتأكيد لو منحت لهم مرتبات ومزايا كتلك التي تُمنح لغيرهم من الأجانب أو حتى نصف ما يخصص لهم لبقوا على رأس عملهم، ولعل قائلا ما هنا سيقول: وأين حبهم للوطن وتضحيتهم لأجله؟ .. في اعتقادي أن ما يحدث إن بقوا ماهو إلا غباء أو محاولة انتحار؛ فالتضحية تكون لمن يستحق التضحية ويحتاج للمساعدة، فكيف أساعد وطنا يمنح خيره لغير أبنائه؟ أضحي لأجله لينعم الغير بخيره!! فالميزانيات التي تصرف على “الخبرات” الأجنبية ترسم أرقاما مهولة في ميزانيات الدولة ولا أحد يبالي!! بل استفحل الداء وطال بعض المؤسسات الخاصة أيضا بعد أن باتت ترضخ لضغوط “ما يطلبه الزبون” الذي أضحى هو الآخر يُفضّل الأجنبي بعد أن سُحبت الثقة من أبناء الوطن ومُنحت للقادمين من وراء الحدود دون البحث عن مؤهلاتهم إذا ما كانت حقيقية فِعلاً أو يتمتعون بإنجازات قيّمة، أم أنها مجرد “بروباقندا” وسيرة ذاتية مليئة بمؤتمرات “بير السلم”.
من واقع تجربتي الشخصية، فقد دخلت معترك سوق العمل باكرا عندما كان عمري 18 عاما، وعملت مذيعا متعاونا بإذاعة الجبل الأخضر المحلية المسموعة في ليبيا، ومررت بمؤسسات عديدة حكومية وخاصة، وتنقلت بين مؤسسات الصحافة الورقية، والإلكترونية، والمسموعة، والتلفزيون، وقد صادفت تقييمات غريبة عجيبة، فلا تكاد مؤسسة تشابه أختها في معايير الترقية والتوظيف والزيادات على الرغم من تشابهها في مجال العمل!! وكان العامل الأبرز في تحديد المرتبات يعتمد على الجنسية أو المزاجية والعلاقات الشخصية، فتجد الأجانب يؤدون أعمالا أقل من عادية ويتقاضون أرقاما فلكية قد توازي مرتبات 3 أو 4 من “أبناء الوطن” مقابل خبرات متواضعة، قد يمتلك العاملون بالمؤسسة من أبناء البلد أضعافها، ولكن لأن “عقدة الخواجة” تعشش في رأس المسؤول فلا يرى الجميل إلا في “الأجنبي”.
ولعل هذه العقدة متوارثة من نظام الحكم الذي زرعه القذافي عندما كان يمنح مرتبات كبيرة للأجانب ويفضلهم على أبناء الوطن فلك أن تتخيل أن مرتب عنصر تمريض من دول شرق آسيا يساوي تقريبا ثلاثة أضعاف راتب الطبيب من أبناء البلد؛ وهو ما تسبب في هجرة العقول والخبرات، وجعل البلاد مسرحا للتجارب وساحة للتعلم للـ “خواجات”.
ومازال حتى يومنا هذا يعاني غالبية المديرين والمسؤولين في القطاعين العام والخاص من متلازمة “عقدة الخواجة”، ليكون مكان المتميزين من أبناء الوطن في دول الشتات ولتحاول وسائل الإعلام الليبية أن تنشر شيئًا من البهجة بنقل تكريم أحدهم هنا أو هناك في دول المهجر التي عرفت مكانتهم فأنزلتهم مكانا يليق بهم، أو عند تقلد أحد أولئك المبعدين من أبناء البلد لمنصب بارز في إحدى الدول، لتبقى ليبيا ومؤسساتها رهينة للعُقَدِ التي أفرزتها منظومة حكم شمولي فاسد، أضرت بالبشر والحجر، وليكون مصير المبدعين في ليبيا إما الهجرة القسرية، أو العيش في منفى داخلي محاط بعذابات نكران الفضل وطمس الجهود ونَسب الفضل إلى غير أهله.