البراني اشكال والتاريخ في ليبيا
حمزة جبودة
في البدء:
” لو رأيت الناس بعين الإنصاف لأعذرتهم”
التاريخ، المُفردة التي دخلت قاموسنا بقوّة في العام 2011، الجميع استخدمها وأيقن في لحظة أنها لن تخونه في أي يوم. استدعت القبائل والمناطق والمدن والقرى، تاريخ أجدادها وخطّت على جُدران المؤسسات والبيوت، أسماء جدودها الذين قاوموا المستعمر في ليبيا، وأكّدوا أن جينات الأجداد ما زالت تسري في عروق الأحفاد، الذين رُسمت صورهم وكلماتهم على الجدران فيما بعد. من مع ومن ضد استخدم ذات المفردة، والجميع على صواب وخطأ، ولكلٍّ أسبابه ودوافعه لضرب الخصوم أو من يرفض الانضمام للعِزّة أو للذل، وِفقًا لمبادئ وأفكار يؤمن بها فريق ويرفضها آخر.
اللواء ركن البراني اشكال، قبل ثماني سنوات، كان مِثالاً للضابط الذي جنّب عاصمة بلاده كارثة إنسانية، هكذا تمّ تكريمه في دولة “الثوّار”، يتحوّل اليوم إلى خائن بعد ثماني سنوات وأكثر من عمر فبراير، لم يعُد البراني اشكال الوطنيّ الذي احتكم للعقل، وعصى الأوامر دون أن يخُن قائده معمر القذافي. وهذا الأمر يُعتبر شائكًا ومُرعبًا في ليبيا الجديدة، التي يتحوّل فيها الخصوم إلى حُلفاء والحلفاء إلى خُصوم. من كان خائنًا في العُرف الثوري، يُصبح وطنيًا بعد سنوات، لا معايير لدينا في تصنيف الآخرين، حتى التاريخ لم يعُد قادرًا على محو الكلمات وإضافة أخرى جديدة، تُناسب ما نُريده في تلك اللحظة بعينها.
مُفردة التاريخ، تغيّرت اليوم، اختلفت صورتها الأولى التي كانت تختزل الكُتب العتيقة والسير الذاتية، اختلفت أدواتها بفِعل التقنية وأبعادها. فاليوتيوب ومواقع التواصل اقتحمت خصوصيته، دمّروا ثوابته التي كانت مُقدّسة. لا خطوط حمراء.. الجميع يكتب والجميع يشطب والجميع ينشر. وهذا التغيّر الكبير. بإمكانك أن تكتب تاريخ أُسرتك أو عائلتك أو أكثر من هذا، تاريخ قبيلتك، التي أصبحت بمثابة الدولة اليوم في ليبيا. لا أحد سيُعارضك، ولن يجرؤ الآخرون على أن يُخبروك بأخطائك. لا أحد سيُفكّر في دعمك بمعلومة عابرة كتبها التاريخ حين كان مزهوا، وهي أن تُعطي الآخرين حقّ الكلام وحقّ الصمت دون أن تُجرّمهم أو تصنع منهم خونة لأنك لا ترى فيهم ينتمون إليك. أو إلى وطنك، القبيلة أو إن شئت البلد الذي يحتوينا أو احتوانا ليبيا.
البراني اشكال، في ظهوره الجديد، جدّد وفاءه لقائده معمر القذافي، لم يصفه بالطاغية، أو القاتل، دعا لرفاق دربه مع العقيد، أن يفكّ أسرهم، ذكر أطراف الصراع في ليبيا بلغة هادئة ومسالمة. ثمانية أعوام وأكثر، لم يكتب فيها آمر كتيبة إمحمد المقريف شيئًا، لم يُصدر كتابًا يكشف خفايا النظام السابق أو أسراره، لم ينتهز الفُرص التي كانت متوفرة بعد العام 2011، في أن يكون أحد القادة العسكريين للمرحلة الجديدة. ساقه القدر إلى أن يكون الأكثر جدلاً في ليبيا، بين من يراه الخائن وبين من يراه بالذي أنقذ وطنه من يلات ومآسي. ستكون مهمة التاريخ الجديد صعبةً ومُعقّدة. لن يكتب شيئًا على كلّ حال، في هذه المرحلة أو ما بعدها، سينتظر ويتأمل وجوه الجميع في ليبيا، وسيُفتّش عن حروفهم وأفعالهم، سيُقارنهم بما مضى. لن يكتب أنه البطل أو الخائن. سيتوقّف في لحظة ما، لأن الأصوات العالية أوقفت مهمته.
لا أحاول هُنا تغيير وقائع ما حدث، أو فرض ثوابت جديدة تتماشى مع المراحل التي تعيشها ليبيا، كما يحدث عادةً. بل أحاول أن أقول إن البراني اشكال مواطن ليبي وأحد أبنائها، إن أخطأ فلن يكون خطأه فادحًا مقارنة بما حدث بعد أفول زمن معمر القذافي، وإن أصاب فيُحسب لهُ لا عليه. وإن أردنا فتح دفاتر الكشف والحِساب، سنصل لقناعة حينها، أننا جميعنا خونة وجميعنا أبطال، كُلّنا على خطأ وكلنا على صواب. لن نحسم الأمر ولن نصل إلى حقيقة تُرضينا.
علينا أن نتوقّف عن اللعب واللهو، لنتأمل مواقفنا، لنتراجع قليلا ونُقلّل من جُرعة الكبرياء والأنفة، ولا بأس إن شعرنا بالخجل. ولنترك بابها مفتوحًا لمن يحنّ لعائلته ووطنه.