الإنسانية والسمسرة في الصحافة الأوروبية
ترجمة خاصة 218
ما تزال قضية ضحايا الجيش الجمهوري الإيرلندي مادة دسمة للصحفيين والسياسيين الباحثين عن الشهرة في أوساطهم، والساعيين إلى التميز بكسب المعجبين والمؤيدين من خلال فتح ملفات لقضايا شائكة، بعد صبغها بصبغة الحقوق الإنسانية وغيرها من الواجهات البراقة لتقارير صحفيين يسعون إلى الشهرة وخطب سياسيين يطمحون إلى حصد مؤيدين، في حين أنها في حقيقة الأمر وسيلة ابتزاز لا أكثر.
الصحفي الإيرلندي “فيليب برادفيلد” في تقرير نشرته صحيفة News Letter البريطانية اليوم الثلاثاء، بعنوان “الأضرار الهولندية لليهود يلهم ضحايا الإرهاب في ليبيا-الجيش الجمهوري الأيرلندي” يربط الكاتب في مستهله بين ضحايا محارق النازية من اليهود الهولنديين، وبين ضحايا الإيرلنديين على يد الجيش الجمهوري الإيرلندي.
افتتح “برادفيلد” تقريره بالإشادة باعتراف شركة السكك الحديدية الوطنية الهولندية بمشاركتها في عمليات ترحيل أكثر من 100000 يهودي – ما يشكل 70% من إجمالي الجالية اليهودية في هولندا- على متن قطاراتها من هولندا ليتم قتلهم داخل معسكرات النازية، فضلاً عن إقرارها بتشكيل لجنة للتحقيق في كيفية منح تعويضات فردية لضحايا هذا التصرف الذي اعتبرته الشركة صفحة سوداء في تاريخ البلد بشكل عام.
واعتبر ” برافيلد” اعتراف الشركة بذنبها ومبادرتها بدفع تعويضات مالية لأسر الضحايا، مبعثاً لآمال ضحايا الجيش الجمهوري الإيرلندي في تعويضات الدولة الليبية القائمة حالياً، لما كان للنظام الليبي السابق على يد القذافي، من دور كبير في دعم فصائل الجيش الإيرلندي بالسلاح والمال.
ونقل الكاتب ترحيب رئيس رابطة ضحايا دوكلاندز (DVA) ،الذي أثنى على شجاعة شركة السكك الحديدة الوطنية الهولندية باعترافها وتقديمها تعويضات لأهالي الضحايا، وتشديده على ضرورة الاعتراف بكل الجرائم المروعة ضد الإنسانية، معتبراً دعم القذافي للجيش الجمهوري الإيرلندي مطلع الثمانينيات حتى بداية التسعينيات، أحد أبرز هذه الجرائم التي ينبغي على ليبيا الآن الاعتراف بها حتى وإن كانت الحكومة الحالية لا ذنب لها في ذلك، مشيراً إلى أن الدول يجب أن تقبل المسؤولية عن قادتها وأنظمتها السابقة، مؤكداً في الوقت ذاته أنه على الرغم من وجود حكومة جديدة في ليبيا إلا أن مسؤوليتها تجاه ضحايا الجيش الجمهوري الايرلندي لا تزال معلقة.
الجدير بالذكر أن حكومات أوروبا وعلى رأسها المملكة المتحدة وإيطاليا وفرنسا أوغلت في حروبها وقتلها الممنهج وممارسة العنصرية في أبشع صورها داخل المجتمعات العربية في دول شمال أفريقيا، لسنوات طوال، رحلت خلالها قوافل الضحايا بأعداد مهولة، فضلاً عن تجفيف خيرات وموارد البلدان ونقلها إلى أوطان المستعمر دون وجه حق، ولعل الآثار التي تزين متاحف هذه الدول وتجذب أنظار السياح من كل حدب وصوب، أبرز شاهد على سرقتهم ونهبهم لثروات البلاد العربية وإرثها الحضاري.
ليبيا التي يطالبها من يدعون الحقوق، ويتكلمون باسم الإنسانية، طالما تضررت من همجية بريطانيا، وتعسف جيوشها وقسوة قادة حربها التي دارت على أراضيها سنوات طويلة، راح ضحيتها آلاف من الليبيين العزل، هل من أصوات طالبت حتى بالاعتذار لضحايا الحرب من الليبيين.
وإذا كان دعم القذافي للجيش الإيرلندي الانفصالي كان جريمة، فماذا يمكن أن نسمي الدعم البريطاني والفرنسي لفصائل ومجموعات مسلحة بعينها خلال ثورة الشعب الليبي على القذافي؟ تلك الثورة التي كانت ثورة شعب يطالب بحقوقه فحوّلها تدخل هذه الدول لاحقاً إلى صراعات مسلحة على السلطة راح ضحيتها الآلاف.
بعض أقلام الصحفيين صارت تمارس السمسرة باسم الإنسانية شأنها شأن الكثير من منظمات حقوق الإنسان التي تنظر إلى قضايا بعين بينما تُقفل الأخرى عن كوارث أشد فظاعة وأكثر انتهاكاً للبشرية والحقوق الآدمية .. فإن اعتدنا سياسة الكيل بمكيالين من أهل السياسة علينا أن نتنبه لمن يضعون السم في العسل من أهل الصحافة وحقوق الإنسان.