«الإخوان» والإلحاح على الكذب
راشد صالح العريمي
كان لاري دايموند ومارك بلاتنر على حق حين ذكرا في مقدمة كتاب «تكنولوجيا التحرير» أن معظم من يستخدمون أدوات المعلومات والاتصالات لأغراض سياسية أو مدنية ليسوا من الناشطين السياسيين، بل هم من مستهلكي ومتداولي المعلومات والآراء عبر الإنترنت، وأنه في العصر الرقمي، تلاشت الحدود الفاصلة بين القارئ والمراسل، والخبر والرأي، والمعلومة والإجراء.
ولعل تعبير «منصة الهراء» الذي استخدمه في آب (أغسطس) الماضي المدون المغربي أمناي أفشكو، يرصد كثيراً من عيوب «فايسبوك»، وقال فيه عن مشاهير «فايسبوك» والمؤثرين به إنهم «حولوا صفحاتهم الشخصية من صفحات مفيدة إلى صفحات الهراء والمعلومات المغلوطة والإفتاء في كل شيء والتهجم على معارضيهم بالسب والشتم وتحريض متابعيهم، وكل هذا تحت ذريعة الحرية الشخصية، وأنه في نهاية المطاف تلك حساباتهم وهم أحرار في ما يقدمونه».
ما يقال عن «فايسبوك» يصدق على موقع التدوينات القصيرة «تويتر»، وكلا الموقعين مُستخدم بكثافة لافتة في العالم العربي، وهما يؤثران بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي، لا سيما منذ الاضطرابات التي شهدتها المنطقة منذ العام 2011، بل إن جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بدأت باستثمار تلك المواقع منذ العام 2010، حين استفادت من تطبيقات منصة «أوشاهيدي» التي تلقى بعض أفراد «الإخوان» تدريبات عليها في منظمة «بيت الحرية» في الولايات المتحدة قبل ذلك.
تشير إحصاءات «فايسبوك» الرسمية في شباط (فبراير) الماضي إلى أن عدد مستخدميه في العالم العربي يبلغ 120 مليون مستخدم، من مجموع 390 مليون نسمة هم عدد سكان العالم العربي وفق تقديرات العام الحالي. أما «تويتر» فتعود أهميته إلى زيادة معدلات استخدامه وتأثيره في دول الخليج العربي بما لها من وزن مهم، واحتلت السعودية – على سبيل المثل – المركز الأول لعدد من السنوات في استخدام «تويتر» عالمياً قياساً إلى عدد مستخدمي الإنترنت، وتليها في ذلك عربياً، دولة الإمارات العربية المتحدة.
ليس بإمكان أي شخص منصف أن ينكر الجوانب الإيجابية في هذه المواقع، وما تتيحه من فرص للتواصل الإنساني والاجتماعي وتوسيع مساحة العالم الذي يعيش فيه الإنسان، وكذلك لكسر احتكار الدول والمؤسسات الإعلامية العملاقة للأخبار ولصناعة الرأي العام وتوجيهه، وتوسيع خيارات الأفراد سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً. ومع ذلك فإن الآثار السلبية في العالم العربي تتغول وتتفاقم لتلتهم كثيراً من الأوجه الإيجابية، وتخلق تحديات أمام المجتمعات والدول العربية من أجل الحفاظ على أمنها وسلامها وانسجامها، واحتواء أشكال الصراع والشقاق التي تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في تغذيتها.
ما يزيد من خطورة هذه الظواهر عربياً، أن المواطنة، مفهوماً وممارسة، لم تجد مكاناً للتطبيق في معظم الدول العربية، وانخفاض المستوى التعليمي الذي يجعل تصديق الأكاذيب والإشاعات أيسر، وما تضفيه وسائل التواصل من طابع شخصي على كل أشكال المواجهة، بحيث تجتذب إليها كل يوم مشاركين جدداً ينخرطون فيها بالقول ويتصارعون فيها مع آخرين يجتذبون بدورهم مشاركين آخرين، وهكذا. وفي مثل هذه الأجواء، فإنه حتى من يمتلكون قدراً من القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف من الأخبار والمواقف، يصبحون أكثر ميلاً إلى تعطيل هذه القدرة بحكم الانحياز والاستقطاب الحاد، وربما يتحولون بدورهم إلى مروّجي أكاذيب وإشاعات بحكم الرغبة في الانتصار بأي ثمن.
هذه القابلية الطبيعية للتأثير السلبي تصبح أشد خطراً، وتتحول إلى تهديد ضخم وملحّ، حين تكرِّس جماعة أيديولوجية كبيرة ومنتشرة جغرافياً على نطاق واسع جهودها من أجل تحقيق أهداف قريبة وبعيدة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وحين تكون هذه الجماعة جماعة موتورة، هدفها هو إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار، وزعزعة الأنظمة والدول والحكومات وضرب الاستقرار من أجل إتاحة الفرصة للجماعة وأنصارها المعلنين والمتوارين وخلاياها النائمة للقفز على السلطة والهيمنة عليها، يتعين أن تكون الدول العربية جاهزة للتعامل مع هذه الجماعة بحزم، وأن تكون هناك خطط على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي لإحباط ما تدبره الجماعة بليل، وما تحشد أنصارها من أجله.
«الإخوان المسلمون» هم الجماعة التي أعني. والتنظيم المحكم الذي تعتبر الطاعة العمياء وتنفيذ التعليمات بصورة جماعية عماده الأول مصدر قوة في خوض المعارك على وسائل التواصل الاجتماعي. فالأتباع المنتشرون في كل قطر عربي يتحركون جميعاً بناءً على أوامر مركزية، ويحشدون كل طاقاتهم في ترويج خبر أو نشر إشاعة أو اختلاق قصة أو الترويج لفكرة معينة، وفي اللحظة نفسها يكون مئات المستخدمين في المغرب مثلاً يكررون ما يقوله أتباع آخرون في السودان، ويساندهم عشرات الآلاف في مصر أو في اليمن أو الأردن، ودول الخليج، ويتجاوب معهم متعاطفون وأنصار في الولايات المتحدة وفي بلدان أوروبا المختلفة، ليُغرقوا المستخدمين الآخرين بمئات المواد المعدَّة لتحقيق غرض معين، من القصص المختلقة إلى الصور والأشكال والتعليقات ومقاطع الفيديو والملفات الصوتية والمقالات المجهولة المصدر والأخبار المحرّفة أو الكاذبة التي تضرب كلها على وتر واحد، وتستخدم أشكالاً متنوعة للترويج لتحقيق أعلى درجات الانتشار.
أي كذبة يُقيّض لها مثل هذا التجييش ستكتسب قوة بالإلحاح عليها، وسيتعامل معها جمهور وسائل التواصل الاجتماعي الهائل على أنها حقيقة. وبهذه الطريقة يمكن بناء كذبة فوق أخرى في شكل مخطط لتوجيه الرأي العام، لاسيما مع الاستثمار الخبيث للمشاعر الدينية والاستعداد لاتخاذ مواقف سلبية من الحكومات والأنظمة في دول عربية تعاني شرائح كبيرة من سكانها ظروفاً معيشية واقتصادية صعبة، وينتشر فيها الفساد والفقر، وتقل فيها الثقة بالسلطات الحاكمة. وبمرور الوقت يصبح الجمهور الذي تشبَّع بمثل هذه الأفكار وقوداً لأي اضطرابات مقبلة، وسيميل إلى استهلاك الأخبار المكذوبة التي توضع بين يديه وتصله حيث هو على صفحته الخاصة، وينزع إلى تصديقها أكثر من الأخبار الحقيقية التي تحتاج إلى من يتقصى ويقارن ويُحكِّم العقل والمنطق ويمتلك من الأصل حياداً ووعياً وقدرات شخصية وتأهيلاً تساعده في ذلك.
الإغراق بالقصص العشوائية وتغييب العقول وإفقادها القدرة على الحُكم الصائب، هي التي تسمح بتمرير تناقضات «الإخوان» ومواقفهم المتضاربة التي لا تستقيم لدى صاحب أي منطق سليم. وفي هذا الإطار يمكن لـ «الإخوان» المسلمين أن يكونوا مناصرين لإيران، بل وأن يقبلوا تمويلها لهم في غزة، وفي الوقت ذاته يعلنون عداءهم لها في الخليج العربي، ويختلقون أخباراً عن تقصير الحكومات الخليجية في مواجهة الأطماع الإيرانية، وأن يتحدث بعضهم عن مشروع مصالحة مع الحكومة المصرية وينفيها بعضهم الآخر في محاولة لخلط الأوراق. ويمكن لـ «الإخوان المسلمين» في العراق أن يدعموا طائفياً بغيضاً كنوري المالكي صنيعة إيران، وفي الوقت نفسه يهاجمون أعنف الهجوم التدخل الإيراني في سورية أو في إيران. وتتم تغطية هذه التناقضات بكثير من الكذب والدجل والأخبار والقصص المختلفة التي يتم إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بها.
ومع إدراك استحالة الرقابة المطلقة من الحكومات على هذه المنصات، أصبح من الضروري أن يبذل المجتمع ومؤسساته المختلفة كالأسرة والمدرسة جهوداً كبيرة لخلق الوعي المحصن ضد الكذب بالإلحاح من أجل تغطية هذه الثغرة، ومنع الجماعة من المضي بعيداً في تنفيذ مخططها لنشر الفوضى والاضطراب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الحياة” اللندنية