الأوقات الصعبة غربال البشر
سالم العوكلي
الوقت الصعب يقسم الناس الذين يمر بهم إلى ثلاثة أصناف: صنف تُخرج الأوقات الصعبة أفضل ما فيهم، وصنف تخرج أسوأ ما فيهم، وصنف ثالث ينأى بنفسه عن التدخل، وهو صنف عادة ما تكون آياديهم بيضاء، ليس بسبب مواقف، بل لأنهم يضعونها طوال الوقت في جيوبهم .
أثبتت الثورات الشعبية على نظم الطغيان، طوال التاريخ، أنها تمثل أوقاتا صعبة تمر بها الشعوب المتمردة على سلطات الاستبداد، وما حدث في ليبيا يأتي ضمن هذا المصير الذي ترسمه الأحداث الكبيرة. وما حدث لدينا، أن الصنف الثاني الذي تُخرج فيه الأوقات الصعبة أسوأ ما فيه، هو من يتصدر المشهد ويقود المرحلة التي تتبع سقوط النظام، لأنه نوع انتهازي ولا مشكلة عنده في الاحتراق الأخلاقي في المرحلة إذا ما خرج بالغنيمة .
لقد تغنى النظام السابق بثالوثه السلطوي وحوّله إلى مقولات وهتافات وأغان وفواصل إعلانية، وهذا الثالوث هو ا”لسلطة والثروة والسلاح” التي أدعى أنه سلمها للشعب رغم أنها أحتكرها لنفسه ولمن يثق فيه من مقربيه، أو لدعم الحروب والجماعات المتمردة في أصقاع العالم، حتى أن فكرة تسليم هذا الثالوث للشعب تحول إلى مصدر تفكه ونكتة لدى الناس المحرومين منها، بعد أن حرموا حتى من حيازة بنادق الصيد، وأي حاكم مستبد لابد أن يتحكم في هذا الثالوث كي يحافظ على سلطته، وأي صنف من الناس يسعى للسلطة سيعمل على التحكم فيه كي يصل إليها. وهكذا، وبمجرد إنتهاء نشوة الثورة والخلاص من الطاغية، كان الصنف أو الأصناف التي تعقب الثورات وتستغل مرحلة الفوضى تتصارع على هذا الثالوث الذي أصبح شاغرا بمجرد نهاية صاحبه وسقوط نظامه.
فهِم َمبعوثو الأمم المتحدة أخيرا طبيعة هذا الصراع الذي يتغني بالوطن وبالشعب وبالقيم، لكنه في حقيقته صراع من أجل هذا المثلث الحاد الزوايا، ولذلك كانت كل المبادرات والاتفاقات التي تحاول أن تحل الأزمة تركز على توزيع المناصب والحقائب لترضية كل الأطراف، مثلما كانت الأمم المتحدة، رغم العقوبات وقرارات مجلس الأمن، تغض الطرف عن السلاح الذي يتدفق إلى مناطق الصراع، وعن الأموال التي تغذيه، لأن المثلث لا يكتمل إلا بهما باعتبارهما ضلعان منه للوصول إلى السلطة. والسلطة في بلد غنية تُسيل اللعاب والدماء، خصوصا أن هذه البلد فارغة من التيارات السياسية الرصينة، ومنعدم فيها مفهوم الدولة العميقة، لأنها عاشت لفترة طويلة في ظل دولة أمنية مسطحة وهشة تعتمد على احتكار مصدر الرزق وعلى تقلب الولاءات القبلية، تغير جلباباها باستمرار كل ما تغيرت الظروف، لتضع المجتمع في عقود من الفوضى آلت في النهاية إلى هذه الفوضى العارمة التي نشهدها.
يقول البعض الذي تعود التهكم على شعار النظام السابق فيما يخص السلطة والثروة والسلاح، إن مقولات القذافي التي عجز عن تحقيقها طيلة أربعة عقود حققها تابعوه خلال فترة بسيطة، باعتبار أن الشعب تقاسمها في النهاية، لكن هذا التحليل ليس دقيقا، فمن استولى على الثروة والسلاح للوصول إلى السلطة هم قلة ترى أنها من صلب الطاغية والوريثة الشرعية له، فمعظم هذه القلة تربى في كنف النظام السابق ورضع من حليبه الملوث حتى الثمالة، بينما الأغلبية الساخرة من المجتمع مازالت تولد النكتة المُرة حول ما يحدث لها من مسخرة، ومازالت كل مبادرة جديدة لحل الأزمة تقع في نفس الغاية من الصراع، وصولا إلى السلطات الأخيرة التي فاجأت بقائمتها غير المتوقعة الداني والبعيد، والتي جاءت أيضا كما أكدت تقارير للأمم المتحدة وتسريبات من داخل فندق الفصول الأربعة، جاءت عن طريق المال السياسي الفاسد المنهوب من إحدى زوايا المثلث وهي الثروة التي سُرقت من الليبيين، والتي بها تدار الآن المؤامرات على مستقبلهم. وفي قلب هذا الصراع اللاأخلاقي كان شيء واحد ينمو وتتقدم مرتبته في سلم المؤشرات العالمية وهو الفساد الذي استشرى في كل السلطات ، والذي تجاوز حتى مفهوم الفساد التقليدي، ليسميه أحد مفوضي الأمم المتحدة بـ “النهب” لأنه وجد أن مصطلح فساد لا يعبر عن حقيقة ما يجري من سرقات بالمليارات، أو الملايين، وفق القرب أو البعد من المصرف المركزي ومن كازينو القمار الممتد على مساحة الوطن.
من جانب آخر كان الحفاظ على الميليشيات والمرتزقة جزء من الصراع على امتلاك السلاح، لأنه أنجع وسيلة للحفاظ على الفساد والطرق الآمنة صوب الثروة، ومن ثم صوب السلطة واحتكار النفوذ.
السلاح منتشر ومازال يتدفق إلى الآيادي القاتلة التي أكثر ما تحتاجه هو إعادة التاهيل بعد أن ولغت في الدماء وفي القتل بدم بارد، وفي هذا الوقت الصعب انقسم المجتمع، ثلة تخرج أسوأ ما فيها ضمن هذا الصراع القذر على الثالوث، وهامش من الليبيين يخرجون أفضل ما فيهم عبر من يقومون بمحاولة تقليل الضرر أو معالجة الجراح: من فرق مصالحة وفر ق إسعاف، من شبيية الهلال الأحمر أو العاملين بضمير في المؤسسات الصحية، أو في إصلاح شبكات الكهرباء، أو بعض الكتاب الذين يحاولون توضيح حقائق الصراع ونشر الوعي حيال ما يحدث، وبعض المؤسسات الحقوقية التي تحاول أن تسجل الجرائم المرتكبة بعيدا عن العقاب، وغيرهم ممن يجعلون ليبيا تستمر في الحياة والتنفس في أصعب الأوقات التي تمر بها. وأغلبية تطارد القوت اليومي وتكتفي بالدعاء بان يفرج الله على ليبيا، بعد أن أخرجهم محتكرو الثالوث من المشهد ومن المشاركة حين اختفت صناديق الاقتراع من كل الحلول في السنوات الأخيرة، وأصبحت سياسة التعامل مع ما يفرزه الأمر الواقع من سلطات متطفلة هي السائدة.
هذه الأغلبية تنتظر بفارغ الصبر أن تعود في ديسمبر القادم إلى المشهد، غير أن ما يظهر حتى الآن يشي بأن هذا الموعد مجرد سراب، خصوصا في ظل أداء السلطات المنوظة بها هذه المسؤولية والتي للأسف لا ترقى خبرةً أو كفاءةً أو مواقفِ إلى صعوبة هذه المرحلة وتحمُّلِ المسؤولية رغم الدعم الذي تلقاه من شرائح واسعة من المجتمع، ورغم السرعة التي اعتمد فيها مجلس النواب الحكومة المقترحة.
تصريحات رؤوس السلطة وما يتخذونه من إجراءات وقرارات لا تمت لمهمتهم بصلة، تنبئ أنهم دون المسؤولية، وأن كون هذه القائمة كانت مفاجأة للجميع هي حقيقة، وحقيقة مرة. فالأساس في مهمتهم إطلاق برنامج سريع ومكثف ومدروس للمصالحة الوطنية، وتوحيد المؤسسات، وتفكيك الميليشيات ونزع السلاح السائب، من سلاح ثقيل ومتوسط وخفيف موجود في أيدي مدنيين يتاجرون باستخدامه وفق من يعطي أكثر من الداخل أو الخارج. ولا شيء تحقق من هذه المهام سوى نزر يسير من توحيد المؤسسات الذي لم ينعكس بشيء على حياة الليبيين اليومية، بل أنها ازدادت سوءا، كما أن تصريحات هذه السلطات مازالت تقع في أخطاء جسيمة تزيد النار اشتعالا، بدل أن تهديء النفوس وتطمئنها. فهي سلطة جاءت في ذروة الاحتقان والاستقطاب والتشرخ في المجتمع، ولم تفعل شيئا حيال ذلك سوى تصريحات أو تصرفات تزيد هذا التشرخ، ولا لوم عليهم فافتقادهم للخبرة أو لمؤهلات بناء دولة وقيادة أمة لابد أن يفضي إلى هذه الأخطاء، كما أنها سلطات جاءت في نفس سياق الصراع على الثالوث الملوث الذي تقسم فيه السلطات والمناصب في مجتمع لا دولة فيه، وتعتمد فيها الميزانيات الضخمة في ذروة انتشار الفساد وغياب أجهزة الرقابة، أو خوف هذه الأجهزة من الميليشيات والسلاح إذا ما أعملت ضميرها المهني. وكما قلت مرارا أن الفساد في ليبيا مختلف لأنه فساد مسلح، وكما أن مصطلح الفساد لا ينطبق تماما على حالة النهب في ليبيا، فإن مصطلح الميليشيات لا ينطبق بدقة لأن الموجود عصابات تشبه عصابات المخدرات في أمريكيا اللاتينية تتصارع على المال والنفوذ والمدن والأحياء والولاء القبلي. وستظل مقرات السلطات، سواء كان معترفا بها أو لا، تتعرض لاقتحامات المسلحين ممن أخرجوا أسوأ ما فيهم إذا ما فكرت هذه السلطة في شيء يضر بمصالحهم، حتى وإن كانت هذه المصلحة تواطؤا مع قوة خارجية تملأ أرضنا بالسلاح والمرتزقة والإرهابيين كما تفعل تركيا الآن.