الأنيس
جميلة الميهوب
بداية ليل آخر.. سكون كئيب.. طلقات رصاص متفرقة تخترق الصمت، وأصوات متداخلة يطلقها أكثر من مؤذن يؤذن لصلاة العشاء…
كنت جالسة وسط الغرفة ذات الإضاءة الخافتة مواجهة للصالة. سرير أمي في ركن الغرفة. الأرضية مفروشة بسجاد. على الجانبين منادير بسيطة مريحة، تعلوها نوافذ تغطيها ستائر قديمة مطرّزة. قبالة السرير طاولة عليها تلفزيون، بجانبها دولاب كبير مُرتب بدقة وعناية فائقة: ملابس، شنط، تيزدانات، عطور وكريمات من أغلى وأرقى الماركات. كرماء جداً مع أمي بالهدايا، كلنا بلا استثناء. في الدولاب رف للشراشف أيضاً.
قبل الحرب، وقبل انتقالي مع أولادي للعيش في كندا، اثنان من إخوتي مع عائلتيهما كانوا يسكنون شقتين في الطابق العلوي من بيتنا، بيت العائلة. في مثل هذا الوقت من موسم الصيف تبدأ السهرة. البيت يضج بالحياة والفرح: موسيقى وأغانٍ. شباب، صبايا وأطفال. لعِبٌ، جريٌ، صراخ، وشوشة همس جانبي في الموبايلات. روائح الطعام المجلوبة من المطعم ممزوجة برائحة شاهي أمي وقهوتها.
انتبهت لصوت حركة أمي داخل المطبخ. كالعادة، عندما تكمل صلاتها، تتجول في البيت. تتأكد من نظافة وترتيب كل شيء. أمي تغسل ركوة القهوة والفناجين التي أتركها دائما من دون غسل.
رأيتها تمسك بيديها قنينتي ماء صغيرتين وتتجه ناحيتي. ناحية الغرفة. لأول مرة ألمح انحناءة خجولة في قوام أمي الواثق الذي يعكس مدى قوتها، اعتزازها بنفسها ورفضها الانكسار للزمن حتى وهي تتجاوز السبعين.
تخلع أمي الشبشب وتدخل الدار. ترجع خطوتين إلى الوراء عندما تنتبه أن فردتي الشبشب غير متحاذيتين. ببطء تنحني. تمسك الفردتين بيد واحدة وتضعهما بجانب الباب. تدخل الدار بخطوات ثقيلة أنهكها الحزن قبل أن يُنهكها الزمن. تضع قنينة الماء بجانبي، وتضع الأخرى قرب سريرها. تفتح الدولاب. بهدوء، تسحب غطاء. تضعه بكل حب عند قدمَي دون أن تنبس بكلمة. تستلقي على السرير، على جنبها اليسار مواجهة لي. تسأل سؤالها اليومي المعتاد:
– كلمتي أولادك اليوم؟
– إيه، كلمتهم
تبدأ الكلام بهدوء وبنبرة حزينة تتخللها الشفقة كلما تحدثت عن أولادي دون أن تعي ذلك.
ـ الله، الله، الله.. أجمل شيء في الدنيا الأولاد.. أذكياء وشاطرين أولادك. سايريهم، بنيّتي، سايريهم. ما نتحملش نشوفهم زعلانين. قلبي يوجعني.
وتسترسل في الكلام…
ـ أولادك طيبين ومؤدبين. يقروا هما توه؟
ودون أن تنتظر الإجابة تكمل…
ـ الحمد لله، الحمد لله.
تتنهد تنهيدة عميقة…
ـ إيييييه، يابنيتي، إيييييييه. دورة وتشوفيهم رجالة ومتخرجين. محظوظة إنت. محظوظة. كأنك تربي في يتامى، كله بأجره.
تفرد ظهرها على السرير. تتنهد تنهيدة أكثر عمقاً وألماً من الأولى. وبصوت منخفض، كأنها تُحدث نفسها:
ـ توه يكبروا.. ويجيبوا بنية.. وأولادهم يملوا عليك الدنيا. شكون لقيتْ غيركم، يا بنيتي، شكون؟.. ولدك الصغيّر ردي بالك عليه، بنيتي. أولادك أمانة. أولادك أمانة.
تمسح دمعة سقطت على خدها. تستدير إلى الجهة الأخرى مواجهة للحائط:
ـ تصبحي على خير، بنتي.
ـ يام، نصكر التلفزيون؟ بالك ما تقدريش ترقدي وهو مفتوح؟
تجاوبني دون أن تلتفت:
ـ لا، لا. خليه التلفزيون، خليه ما تصكريشي. متعودة نخليه للصبح باش يونّسني.
