استفتاءات تليها صراعات
بكر عويضة
تناقلت منابر ومنصات إعلامية عدة، الأحد الماضي، نبأ قرار الممثل البريطاني القدير، كولين فيرث، حمل الجنسية الإيطالية، من منطلق تسجيل احتجاج على مضي بلاده قُدماً في طريق الخروج من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعدما وضع خطاب تيريزا ماي، الجمعة الماضي، بمنتجع فلورنسا الإيطالي، ذي العمق التاريخي، حداً لأي احتمال تراجع عن «بريكست». من جهتها، تخوض مدريد معركة قانونية مع حكومة كتالونيا لثنيها عن تنظيم استفتاء الشهر المقبل بشأن استقلال الإقليم عن إسبانيا. أول من أمس، انتظم مئات آلاف أكراد شمال العراق في طوابير اقتراع على «الاستقلال»، وفق وصف زعمائهم، أو «الانفصال»، كما يصفه كل معارض لحلم كردي قديم، وجد فرصة نهوض جديد من رماد ما حلّ بأرض الرافدين. هل ثمة تعارض، أو فرق، بين كِلا الوصفين؟ كَلا. إنما يروق لأكثر المعترضين على تطلع أكثر من ثلاثين مليون كردي بكل من العراق، تركيا، إيران، وسوريا، لكيان دولة مستقل، رمي الأكراد كافة بحجر «الانفصال»، من منطلق أنه موبق سوف يزعزع استقرار تلك الدول، أو هو وباء من شأنه إيقاظ وازع مماثل، لكنه نائم، لدى أعراق أخرى غيرهم.
بين استفتاء البريطانيين على مغادرة الاتحاد الأوروبي (23-6-2016)، وقبله الاستفتاء بشأن استقلال اسكوتلندا عن بريطانيا (18-9-2014)، وصولاً لاستفتاء كردستان العراق، قاسم مشترك خلاصته هي الإفصاح عن رغبات مكبوتة لدى تجمعات عرقية تتكون منها الشعوب، وعلى أساس تناغم العلاقات والاحترام المتبادل فيما بينها، يتعايش الناس، فتُبنى المجتمعات، وتنهض الدوّل. أي اختلال في موازين معادلات التعايش من شأنه أن يوّلد ضغائن. غض النظر عن الاختلال، وكنسه تحت الحُصُر، كأنما هو غير قائم، ليس بالتصرف الصحيح. هناك، بين أكوام الغبار، سوف يتكاثر فيلد اختلالات. كذلك هو السكوت على صغائر الأخطاء، لن يلغيها، بل ينميها فتنتعش، ويحلو لها التناسل، فتصير أخطاء كبرى ربما تُوصل للخطايا، والأخطر أن يصبح استسهال الكبائر هو المُنتهى. مثلما ينطبق هذا على الدوّل، فإنه يصح على مسيرة الأفراد، أولاً، لأنهم الأساس المُكوّن للمجتمعات.
ضمن هكذا سياق، بالوسع القول إن تهاون حكومات بريطانيا المتعاقبة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، إزاء اتساع تدخل الاتحاد الأوروبي في الشأن اليومي لحياة البريطانيين، أسهم إلى حد كبير في إذكاء التململ لدرجة الضيق، ثم الدفع به إلى الرغبة في الطلاق. القياس ذاته ينطبق على ضيق اسكوتلنديين كثر من إحساس تهميش لندن لهم، وهو ما يوقظ لديهم أحاسيس نائمة في بطون التاريخ، لكنها تسكن تحت مسام كثيرين منهم. إنها تذكرهم بأن الإنجليز أنهوا استقلال مملكتهم (1-5-1707) بالقوة. لو أحسن ساسة العراق وتركيا وإيران وسوريا تفهم اعتزاز الأكراد بلغتهم، ثقافتهم، تراثهم، ومن ثم جرى التعامل بالحسنى مع تطلعهم للتعبير عن كينونتهم، لا بالقمع الظالم، وليس بمظالم كانت تبلغ، أحياناً، مستوى الإبادة العرقية، لربما أمكن تجنّب تشكيلهم ميليشيات مسلحة، ثم الدخول في صراع عسكري معهم، وربما أمكن تلافي بلوغ مطالبتهم باستقلال تام.
لم ينجح استفتاء اسكوتلندا في فصلها عن بريطانيا، لكن نتيجته خلّفت وراءها صراعات لم تزل تطل برأسها من حين لآخر، ولا يضيّع أنصار استقلالها، بزعامة نيكولا ستيرجن فرصة كي يطالبوا بإعادة الكَرة من جديد، وفي مارس (آذار) الماضي حققوا خطوة مهمة في هذا الاتجاه. بالمقابل، نجح استقلاليو المملكة المتحدة في انتزاع نسبة 51.9 في المائة لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، مقابل 47.1 في المائة فضلت البقاء. لكن الفائزين بالفارق الضئيل فشلوا في الاتفاق فيما بينهم، من جهة، ولم تهدأ صراعاتهم مع خصومهم من جهة ثانية، بل تكاد تطيح حكومة تيريزا ماي بأكملها، لتحل محلها حكومة يرأسها أحد المتنافسين على الزعامة بين زعماء «بريكست».
تُرى، أيكون حال كردستان العراق ما بعد الاستفتاء أفضل؟ هل ثمة ضمانات تحول دون تحوّل حلم الاستقلال إلى كابوس صراعات مع دول الإقليم، وربما بين قيادات الأكراد أنفسهم؟ كلا، الجزم بأي تصوّر لما سيكون إليه المآل هو أقرب إلى المستحيل. لكن ذلك يجب ألا يحول دون الأمل بألا يتطور الحال إلى الأسوأ. أما كولين فيرث، بطل فيلم «خطاب الملك»، فالأرجح أنه سوف يظل دائم الحنين لمقاطعة هامبشاير في ريف إنجلترا، حيث وُلد، بصرف النظر عن أي جواز سفر يحمل.
_________________________________