إنفلونزا الكتب
سالم العوكلي
كنت حين أنتهي من كتاب أدبي، أبعثه إلى الصديق الكاتب، عمر الككلي، لآنس برأيه قبل التفكير في نشره، وكان في كل مرة يعبر عن رأيه في الكتاب بحماسه الفوري لنشره، والسعي إليه.
حينما انتهيت من مخطوطة رواية “اللحية”، بعثتها إلى عمر الككلي، وترتب عن رأيه فيها اتصال دار الفرجاني بي لإبداء الرغبة في طباعة الرواية مع كتاب “سجنيات” لعمر الككلي، ورواية “العلكة” لمنصور بوشناف، وأخبرني السيد، هشام الفرجاني، أنه يسعى لطباعة هذه الكتب الثلاثة دفعة واحدة في بيروت وترجمتها فيما بعد إلى اللغة الإنجليزية. بعد فترة اتصل الناشر ليخبرني أن رقابة المطبوعات الليبية منعت نشر الكتب المعنية، واستغربت، ليس من إيقاف الرقابة للمخطوطات فهذا هو المتوقع، ولكن من علاقة الأمر بالرقابة الليبية لأنه كما اخبرني كان سيطبعها في بيروت، ووضح لي أنه فعلا كان سيطبعها في بيروت لكنه أراد إذنا مسبقا بتوزيعها في ليبيا وهو أمر يهمه جدا.
تطرح رواية اللحية أحداث الصدام بين النظام السابق والجماعات المتطرفة في التسعينيات والتي شهدت فيها مدينة درنة ذروة هذا الصدام، لكن خطها السردي الأساسي يتابع حياة شخصيتين ، إحداهما متطرفة إسلاميا وتكفيرية، والأخرى متطرفة ثوريا وذات نفوذ في اللجان الثورية، فتشكلان وجهان لعملة واحدة، أو كما كتب صديقي عمر الككلي في تعليق على منشوري، بل هما نقشان على الوجه نفسه من العملة.
كانت كلتا الشخصيتين تحت قوى غيبية، يحركهما نوع من العمى الغنائي الناتج عن الإحساس بالقبض على الحقيقة واحتكار فكرة الخلاص للجميع، وهذا الاعتقاد هو ما جعل أياديهما ملطخة بدماء الأبرياء الذين يعترضون بوجهة نظر مختلفة دفق هذا العمى الغنائي.
وهو التناغم نفسه الذي يحدث بين النظام السابق وبين نظام المؤسسة الدينية التي تسيطر الآن بأشكال مختلفة ، فهما وجهان لعملة واحدة ، وكلاهما يعاني من فوبيا الكتاب، أو فوبيا المعرفة عموما، لأن مشاريع السلطة والوصاية تحتاج إلى استسلام تام من المحيط، ولا يمكن أن تتقدم إلا فوق أرض من الجهل المطبق، وفكرة الكتاب أو المعرفة تعكر صفو هذا المشروع، فالكتب بالنسبة للسلطة المستبدة كائنات موبوءة يجب مصادرتها أو عزلها أو حرقها كما تحرق الطيور المصابة بالإنلفونزا، أو حتى غير المصابة من باب الاحتياط .
فترة سيطرة داعش على درنة، وجدت على غير العادة شخصا يبيع كتبا قديمة على الرصيف قرب سوق الظلام واشتريت منه روايتَي: “الغريب” و “الطاعون” لألبير كامي (ألبير كامي كاتب فرنسي كان ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر ومتعاطف مع نضال الشعب الجزائري) وحين رآها أحد الملثمين في بوابة داعش غرب درنة أوقفني وصادرها مني قائلا هذه كتب طواغيت، وأعطاني هذا الفتى الذي لا يعرف حتى كيفية نطق الكلمات محاضرة وعظية في الجهل كانت حجة الإقناع الوحيدة فيها هي البندقية التي في يده. وتخليت عن كتبي لأني اعتبر هذا السلوك طبيعيا من قبل جماعة ظلامية خارجة عن القانون وعن الإجماع الاجتماعي، وضد الثقافة والفن والفكر والحياة نفسها، وأن مشروعها الظلامي يحتاج إلى أرضية من الجهل كي ينتشر، فلم اعترض لأن هذا الشخص الملثم متسق مع نفسه وتكوينه المتطرف وما تعرض له من غسيل دماغ.
بعدها بفترة استعنت بصديق كان قادما إلى مطار طبرق من طرابلس لإحضار مجموعة كتب من إصدارات دار الفرجاني بطرابلس، وفي بوابة غرب طبرق تم توقيفه والتحقيق معه ومصادرة الكتب (معظم الكتب أدبية ،بين رواية وشعر، وللمفارقة بينها روايات ألبير كامي). اتصلت بمدير مكتب هيأة الإعلام والثقافة التابعة للحكومة المؤقتة، وبمندوب رقابة المطبوعات بطبرق، وبالمستشار الإعلامي لرئيس مجلس النواب بحكم معرفتي الشخصية له، لكنهم لم يحركوا ساكناً. وعدت لاستخدام العلاقات الخاصة والقبلية، وأفرج عن الكتب ما عدا ثلاثة منها. كان مع الكتب مصباحا قراءة إلكترونية ثمنهما 150 ديناراً، احتجت لهما بسبب صعوبات القراءة مع ضعف النظر، واختفى المصباحان مع الكتب الثلاثة (الظلاميون لا يصادرون الكتب فقط لكن الضوء الذي تُقرأ به هذه الكتب أيضاً).
في المرج صادر البحث الجنائي شحنة كتب ثقافية وأحالها إلى هيأة الأوقاف (لا أعرف ما علاقة هاتين الجهتين بمراقبة الكتب) ولم يتطرق أحد في البداية لمسألة المستندات ولكن كيلت التهم الخطيرة لهذه الكتب حتى قبل أن تقرأ. يقول أحد ممثلي هيأة الأوقاف في لقاء بقناة ليبيا الإخبارية : حتى صاحب الكتب تبرأ منها واختفى ولم نستطع الاتصال به . وأقول بدوري أن صاحب الكتب تاجر، وهذا رزقه، ولولا الخوف من هذه التهم التي يعرف أن عادة ما يعقبها القتل أو الذبح لما ترك رزقه. وهذا المنحى يعكس أن جدار الخوف الذي اخترقه الليبيون في انتفاضة فبراير يتم ترميمه وإعادة بنائه من جديد.
لا فرق بين تكفير الكتب والكُتّاب أيديولوجياً، فترة النظام السابق، وبين تكفير الكتب والكُتّاب دينيا في مثل هذه الحوادث، ربما الفارق الوحيد أن النظام السابق الذي أحرق مكتبة الجامعة الإسلامية في البيضاء منذ بدايته، عمل لاحقا على تقنين مؤسسة رسمية اسمها رقابة المطبوعات، كانت تقرأ ثم تمنع، أما نظام اللانظام الجديد فهو يمنع ويصادر قبل أن يقرأ ، بل أن بعض من يصادرها لا يجيد القراءة والكتابة. وسأضرب مثلا على الجهل حيث تتباهى الكثير من المواقع والصفحات بمصادرة كتاب “برتوكولات حكماء آل صهيون” وهو كتاب ضد الصهيونية يفضح أكاذيب وألعاب الحركة الصهيونية، ولاحقته أجهزة الأمن الإسرائيلية السرية في كل مكان، وصادرت وأحرقت مئات الألوف من النسخ المطبوعة منه لدرجة أصبح العثور على نسخة منه شبه مستحيل، ويعتبر الصهاينة، الآن، أن أي دار تنشر هذا الكتاب تقع تحت طائلة قانون معاداة السامية.
كانت رقابة الحكم الشمولي تقرأ وتقيم، والآن لا ثمة مؤسسة محددة، فكل أحد مخول بمصادرة الكتاب، وكأن الكتب هي سبب دمار ليبيا ، وفي الواقع لم يدمر ليبيا سوى الحجر على الكتب والمعرفة، والعمل على ترويج كتاب واحد وشروحه آو ما يتسق معه من كتب، وهو الكتاب الأخضر، وأن القذافي بدأ في ما سماه “الثورة الثقافية” بحرق الكتب وسجن ونفي وقتل المثقفين الليبيين، ودشن هذا النهج الإقصائي، إضافة إلى منظومة التعليم البائسة، أجيالا جاهلة، إلا ما رحم ربي، وجاهزة لتشرب أي فكر تخريبي مازالت تعاني منه ليبيا حتى الآن.
وبعد ما حدث من جدال حول واقعة المصادرة،عممت هيأة الأوقاف خطبة جمعة تهاجم الكتب والقراءة والتفكر والعلم، وتتهم الكتب والكُتّاب بالعلمانية والإباحية (وهي التهم نفسها المزيفة التي كان القذافي يحبس بها المثقفين المعارضين له. نفسها تماماً) ومن هذا المنطلق ثمة أسئلة وملاحظات لابد منها:
أولاً: إذا ما كانت هيأة الأوقاف مؤسسة رسمية تتبع السلطات الشرعية الليبية التي تسعى للتأسيس لدولة القانون والمؤسسات، فما موقف هذه السلطات؟ ولماذا الصمت تجاه هذه القوائم التي تنشر للمثقفين الليبيين الوطنيين تحت عناوين من التهديد والوعيد؟ وما دور هذه السلطات التي مهمتها الأساسية حماية المواطن؟.
ثانيا: إذا ما اعتبرنا أن هناك رغبة من قبل جمعية ما، هي جزء من المجتمع المدني وليس الرسمي، لتغيير عقيدة ومذهب ستة مليون ليبي، يعيشون في مجتمع إسلامي سني مالكي منذ الفتح الإسلامي، فهذا يتطلب أن تحصل هذه الجمعية على ترخيص أولاً، وأن تطالب بتضمين هذا التغيير المذهبي في الدستور الليبي بعد أن يتم استفتاء الناس المعنيين ومشورتهم. وحين يوافق الليبيون على تغيير مذهبهم الذي حاربوا في ظله الاستعمار الإيطالي فسنكون أول الموافقين لأننا مع الإجماع فيما يخص العقيدة والوجدان.
ثالثا: أعيد، وقد كتبت هذا فترة النظام السابق، عندما كنا ضد حتى وجود رقابة المطبوعات الرسمية وقانونها، إن محاولة تنظيم حركة الكتب في عصر التقنية والمعلومات والثورة الرقمية تشبه حركة رجل المرور المجنون الواقف في مفترق على الأرض ويحاول تنظيم حركة الطيران في السماء.
الكتب تهاجر الآن عبر الأثير مثل الطيور ولا أحد يستطيع منعها حتى وإن كانت مصابة بالإنفلونزا.
وأخيرا: (في حوار أجراه صحفي نمساوي، بعد حرب 67، مع وزير الدفاع الأسبق للكيان الصهيوني، موشي دايان الذي قال له: أن قرار 242 لم يعد له وجود. سأله الصحفي: ألا تخافون من 200 مليون عربي يحيطون بكم ؟ فأجاب دايان: نحن لا نخاف من العرب لأنهم لا يقرؤون).
لم يقل لأن لدينا سلاح نووي، أو لأن الولايات المتحدة معنا . بل قال لأنهم لا يقرؤون .