إعادة كتابة التاريخ
عمر أبو القاسم الككلي
يحتاج التاريخ، أي تاريخ، إلى مراجعة وتدقيق باستمرار. لاعتبارات عدة، منها أن الكتابة التاريخية غالبا ما تخضع لأهواء المؤرخ وانحيازاته، وأنها تخضع لإمكانياته في الفهم والتحليل التي قد تكون متواضعة، واحتمال نقله عن مصادر غير دقيقة أو مضللة، واحتمال عدم الدقة في نقل الأحداث إذا كان المؤرخ معاصرا لما يؤرخ له، وما إلى ذلك. فالمؤرخ الجاد يقوم بإعادة بناء المشهد العام لحدث أو حقبة ما كمن يقوم بإعادة تركيب صورة من خلال عدد هائل من مزقها. ومع ذلك فإن إنجاز صورة مطابقة لهذا الحدث أو الحقبة شيء، بطبيعة الحال، متعذر، وليس صعبا فقط. قصارى المطلب هو الاقتراب أكثر ما يمكن من واقع الأمر.
ولعل تاريخ ما يعرف بصدر الإسلام من أكثر التواريخ حاجة إلى إعادة النظر فيه وتمحيصه مرة بعد أخرى. وذلك لسببين رئيسيين، وهما 1) عدم تدوين الأحداث والوقائع حين وقوعها أو في وقت قريب منها، إذ من المعلوم أن عصر التدوين في التاريخ الإسلامي بدأ بين 130 و 140 هـ، أي بعد ما يقارب قرن ونصف من الوقائع المؤسسة لهذا التاريخ*. 2) كثافة أحداث هذه الفترة ووقائعها وشدة موارها.
وفي هذا السياق قام المؤرخ التونسي المختص في التاريخ الإسلامي هشام جعيط ببذل جهد مرموق في محاولة إعادة بناء وقائع ما يعرف بالفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي في كتابه المهم “الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر”** من خلال العودة إلى أقدم المصادر التي أرخت لها خائضا معها جدالا وخصاما ومجريا عملية استنطاق واستشفاف ما سكتت عنه. إضافة طبعا إلى استشارته للمراجع الحديثة، عربية واستشراقية، اعتنت بالموضوع أو جانب منه. لقد خصص ثلاث عشرة صفحة (الصفحات من 148إلى 160) للحديث عن طبيعة مصادره وإشكالياتها، يخلص في آخرها إلى التساؤل: “بعد هذا الفحص، هل يمكن القول إن تاريخ القرن الأول يمكن كتابته بطريقة مقنعة ومعقولة؟” (ص 160). ويقول أنه بعد قراءة المصادر عدة مرات وجد نفسه أمام مفارقة مؤداها أنه بازدياد السيطرة على “تشابكها العجيب، المرهق في البداية، ازداد شعورنا بالخواء. هناك أشياء كثيرة تتفكك أو تبدو كأنها تتفكك” (ص 160).
وعن سبب اختياره موضوع الفتنة مجالا لدراسته يقول:
“أعترف بأنني كنت شديد الاهتمام بهذه الفتنة في الإسلام الأولي، في حركتها الصاعدة، منذ الأزمة في عهد عثمان حتى المعارك الملحمية التي دارت في البصرة وصفين. فقد كانت أكثر من حرب أهلية أو حرب دينية؛ إنها مركب قوي راح يهز عناصر لا متناهية، وشيء ما تطور وطور تراكيب بالغة التنوع، تكاد تكون حديثة، مثل ولادة الأحزاب ومؤتمر التحكيم. ومثلها مثل الثورات الكبرى، كان للفتنة إيقاع لاهث، وكانت تشرف عليها سماء الأفكار، وقد أقحمت في مشروعها الأعداد الهائلة من البشر، وبالتالي وسعت مفهوم السياسي” (ص 8).
هذا الاهتمام الشديد والرؤية الشاملة للموضوع هما ما جعلاه يقول:
“حاولت […] أن أمارس تاريخا تفهميا إلى حد بعيد، وأن أغوص حتى قلب المناخ الذهني والعقلي للعصر، وأن أسعى لفهم كيفية تفكير أهله، وما كانت عليه أصنافهم ومقولاتهم وقيمهم، وحتى إنني حاولت الكلام بلغتهم. ومن ناحية ثانية، فإنني حين حاولت أن أدرك بوضوح، كثرة المعطيات، وأن أحلل البنى، وأن أكتب تاريخا شموليا، وإنما أردت أيضا أن أروي، أن أخبر، وأكتنه من خلال الرواية هذه المرحلة الغنية بالرجالات والأحداث. وتوصلت في نهاية المطاف إلى أن أعيش مع هؤلاء الناس وهذه الأحداث” (ص 8).
* “هذا لا يعني أنه لم يكن هناك مجهود لجمع المادة وتدوينها في العصر الأموي، بل يعني أن ذلك المجهود كان جزئيا، وأن نتائجه كانت ذات فائدة قليلة جدا نسبة لما سيدون لاحقا”. جعيط. (ص 151).
** هشام جعيط، الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ت: خليل أحمد خليل، دار الطليعة، بيروت. ط 8، 2015. وأرقام الصفحات الواردة في المتن، أو الهامش، تحيل إلى هذه الطبعة.