أيقونة “الخزف”.. ألوانٌ تتوهّج على قمم “نفوسة”
خاص
أحلام المهدي
لا يغرّك اتساع الفضاء الباهت على سفح الجبل، فثمّة فوق ما يستحق الصعود إلى القمة، وقطع الطريق المتعرّج صعودا إلى هناك، “جبل غريان” كما يعرفه الليبيون رغم كونه جزءا من جبل نفوسة، و”قباب غريان” كما يعرفها الجيولوجيون رغم تفاوت ارتفاعها، يسميها البعض “حاضرة الجبل”، لكن البعض الآخر يكتفي بكونها “غريان” فقط دون أيّة صفاتٍ أخرى أو ألقاب.
في مدخلها الشمالي الذي يربطها بعاصمة البلاد “طرابلس”، يتدلّى “أبو غيلان” كقُرطٍ من أعلى الجبل إلى أسفله، حتى أن المسافر من هذه المدينة إلى العاصمة يقول “بننزل لطرابلس”، أما من يقصدها من العاصمة أو من بعض المدن الأخرى فيقول “بنرقى لغريان”، لتكون العبارتان ترجمة حرفية لما يحدث بالفعل، فهذه المدينة الجبلية تتوسّد عددا من أعلى قمم جبل نفوسة.
بعد انتهاء تعرّجات “أبو غيلان” ستطالع وجه المدينة الباسم الذي يتجلّى على جانبي الطريق، فعن يمينٍ وعن شمال تتناثر الألوان والأشكال الجذّابة، في مهرجانٍ من الجمال لا ينتهي، فالجرّات الثلاث التي تتوسّط أبرز ساحات غريان لم تأت اعتباطا، في مدينةٍ عُرفت لدى الليبيين بصناعة الخزف والفخّار، فكان المعرض المفتوح على جانبي الطريق إلى “تغسّات” وسط المدينة محطّةً يجب التوقّف عندها من كل زوار المدينة أو المارّين عليها، فجاذبية المكان تدعو الجميع لذلك.
يعرف “الغراينة” دون غيرهم أن الاحتفاء بالضيف لا يعني فقط الطعام والشراب، ولا حتى الحفاوة والاستقبال اللائقَين، بل يصاحب هذا عرضٌ باذخ من الأواني والصحون الفخارية التي يخصّون بها الضيوف فلا تخرج للنور إلى في حضرتهم، فهناك “تباسي” خاصّة بالبازين تتميّز بعمقها وهناك أواني “قلّال” أخرى يُقدّم فيها “الكسكسي” وبعض الأكلات الليبية الأخرى، وفيها يغيب العمق ويحضر الاتساع والحوافّ المنخفضة.
هناك أيضا “الإكسسوارات” التي لا يستعملها إلا الليبيين في غريان تحديدا وفي بعض المناطق القريبة، مثل الإناء الخاص بحساء “البازين”، الأقرب إلى التحفة الخزفية بهيئته الممتلئة التي يعلوها غطاء أنيق جميل تركّزت فيه الألوان والزخارف، مع فتحة للسّكب وأذنين صغيرتين للزينة أكثر منها للإمساك بالإناء، ولا ننسى “التنّور” الذي تصنعه الغريانيات من المواد الخام التي يجمعنها من الجبل والمعروفة ب”التّفّون”، ليكون الفرن الفخّاري رمزا لهوية هذه المدينة وليبيّتها.
ورغم الأزمة الاقتصادية التي جلبت معها خمولا في القدرة الشرائية للمواطن الليبي يتفاقم ليصبح عجزا في بعض الأوقات، ورغم الشكوى من الأسعار المرتفعة للمنتجات الفخارية التي يعتبرها البعض “أسعارا سياحية”، إلا أن حرفيّي هذه الصناعة يعانون بدورهم من كسادٍ كبير، إذ أبعدت عنهم الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية في البلاد سوّاح الداخل والخارج، وحتى زبائنهم المحليين، لكن هذه الصناعة لازالت صامدة رغم الظروف، ولازال حرفيّوها يتفنّنون في ابتكار وتجديد نماذج عصرية من كل ما استخدم الأجداد نسخا بسيطةً منه، ليتم إدخال ألوان وأشكال جديدة تواكب روح العصر دون أن تمسّ روح الأصالة أو تعبث بها، وليستمرّ توهّج الألوان على قمم المدينة.